في 21 دجنبر 2017 نشر موقع هسبريس خبر تقدم فريق العدالة والتنية إلى مجلس النواب بمقترح قانون يدعو إلى تبني اللغة العربية في الحياة العامة والإدارات، والجديد فيه أنه يدعو إلى تمكين الهيئات والجمعيات الحقوقية من رفع دعاوى قضائية إلى من يعبث برسمية تلك اللغة ويعرقل تفعيلها.
وما إن سمع بالخبر من نصب نفسه وكيلا على الأمازيغية حتى فجر فرقعاته المبللة المملة ضد الاقتراح، كدأبه مع العربية والعرب والمسلمين أجمعين. وإني لأرجو لتلك المبادرة أن لا تبقى، هذه المرة، حبرا على ورق، كما هو حال دوريات كان يوقع عليها وزراء أوّل سابقون (من حكومة عز الدين العراقي إلى حكومة عبد الرحمان اليوسفي) ويرسلونها إلى مختلف المرافق والمؤسسات العمومية لإلزامها باستخدام اللغة العربية أجرأةً لرسميتها العائدة إلى 7 دجنبر 1962 والمواكبة لتاريخ المغرب المستقل، وتقديرا لوجودها المكتوب والمنتج في تضاعيف إرثها المديد. وقد استنكر الأستاذ محمد شفيق هذا الوضع المزري وما أسماه “التفرنس” الكاسح، وذلك في مقدمة معجمه القيّم المفيد الدارجة المغربية مجال توارد بين الأمازيغية والعربية.
وإني إذ أثني على الاقتراح ذاك لأتمنى أن تعتمده كل الفرق البرلمانية (في مقدمتها الفريق الاستقلالي)، وذلك لكون اللغة العربية لم تعد لغة بلاد ميلادها فحسب (اللغة المضرية العدنانية)، وإنما أضحت تراثا حضاريا تملَّكه العالم العربي كله واستثمر فيه أدبيا وفكريا وعلميا منذ قرون عدة (كما فعلت الأمريكيتان بالأنجليزية والإيبيرية) واشتق منها عامياته السارية في جهاته الأربع.
إن الجدير بالتسجيل في هذا الشأن هو الدور البناء الذي لعبه مسيحيو المشرق بكل أطيافهم في نهضة اللغة العربية وآدابها، وقد كان رائدهم ناصيف اليازجي الذي اهتم أيضا بشؤون التعليم؛ وهذا بطرس البستاني ينشئ “دائرة المعارف” وأحمد فارس الشدياق يؤلف “الجاسوس على القاموس”؛
وهذا الأب أنستاس الكرملي يؤسس مجلة “لغة العرب”؛ علاوة على لويس معلوف من علماء اللغة العربية وصاحب قاموس “المنجد” في اللغة. وتعود كل تلك المبادرات إلى النصف الثاني والنصف الأول من القرنين التاسع عشر والعشرين.
ومن زاوية أخرى، تدعو إلى الاعتزاز، إن العربية التي هي لغة 22 بلدا عربيا، تعدّ اليوم زهاء 437 مليون ناطق ومستعمل، وأعلنتها في 1973، كما نعلم، منظمة الأمم المتحدة ضمن لغاتها الرسمية الست، وقررت في 2010 تخصيص يوم عالمي للإحتفاء بها، وهكذا استصدر المجلس التنفيذي لليونسكو مرسوما يقضي بجعل 18 ديسمبر من كل سنة يوما عالميا للغة العربية.
وحسب ترتيب حديث لهذه المنظمة، تحتل العربية الرتبة الرابعة بعد الصينية والأنجليزية والإسبانية بمعياري التمثيلية والتداول، فيما الفرنسية تأتي في الرتبة السابعة. أما في الشبكات الإجتماعية ووسائل الإتصال الحديثة (يوتوب، تويتر، فايسبوك) فإن العربية حاضرة بقوة وتقوم فيها بين اللغات الأكثر استعمالا؛ كما أن العديد من المحطات الإذاعية والتلفزيونية في أوروبا تبث بها برامجها (مانتي كارلو، RIF، بي بي سي، سكاي نيوز، نيوز أرابيك، دوتشي ڤيلي، فرنسا 24…).
هذا، ويمكن إضافة مؤشرات أخرى لفائدتها، منها تحديدا أنها لغة الكنائس المسيحية والقبطية العربية، ولغة الشعائر الدينية لمليار ونصف مليار مسلم في العالم… كما أن الحرف العربي تتبناه اللغتان الفارسية والأوردية (باكستان وأفغانستان) وحتى الكردية، وكانت اللغة التركية تكتب به قبل انقلاب مصطفى أتاترك، ولأسباب سياسية صرفة.
وبناءً على ذلك كله، فإنّ تلك اللغة تندرج في أساسيات هويتنا التاريخية، وبالتالي فإن الواجب الجماعي والعيني اليوم يقضي بحمايتها وصيانتها من حملات التهجين والتبخيس يقوم بها غلاة، مستعملين -يا للمفارقة العجيبة!- اللغة العربية نفسها ومقدراتها البلاغية والبيانية. ولن يتم ذلك إلا بصياغة قوانين ملزمة سارية الوقع والمفعول في الإدارات والمؤسسات العمومية والفضاءات التجارية، كما في قطاعات حكومية ومؤسسات لا تعمل بها، وإلا فإن مسألة الهوية وحمايتها قانونيا ولغويا وثقافيا ستكون محط تصدعٍ وتآكل، من عواقبه الوخيمة أن يضر بنوابضها الذاتية ومقدراتها الإبداعية وأنسجتها التواصلية.
ولقد ذكرني ذلك الاقتراح بنداء وجهته منذ أكثر من سنتين، عنوانه: فضاءاتنا واكتساح الحرف اللاتيني. ولا بأس أن أذكر بأهم فقراته:
منذ بضع سنوات نشاهد بأعيننا المجردة الانتشار الممنهج المهول في غالبية الفضاءات المدينية للحرف اللاتينـي الفرنسي واستفراده دون الحرف العربي بأسماء المحلات التجارية من مقاهي ومطاعم ومخازن وصالونات وغيرها. وقد تفشت هذه الظاهرة الغريبة المقلقة في مجمل المدن الكبرى كما في المتوسطة والصغرى، وليس في الشوارع والرحاب العصرية وحدها، بل تعدتها إلى الأحياء الشعبية القديمة أيضا.
وقد تستفسر بعضَ أصحاب تلك المحلات عن سبب ذلك، فمن قائل إن المغاربة يقرأون الفرنسية، ومن متذرع بكون الدِّيزاين بالفرنسية لا يترك مكانا (بلاصة) للحرف العربي، ومن معلل فعله بتقليد أصحابه في المهنة. أما إذا خاطبت في الشأن نفسه مسؤولين جماعيين وبرلمانيين وحتى حكوميين في مشروعية الترخيص الإداري بذلك، فلا تلقى منهم إلا أجوبة خاملة مستنيمة، أو كلمات مستنكرة عابرة، أشبه ما تكون بكلمات المهوّنين بل المغلوبين على أمرهم. وهذا الوضع الشاذ لا نظن أن له قرينا في أيّ قطر من القارات الخمس.
أما زمر المثقفين وجمعياتهم فإن سوادهم أمام هذا الشأن وسواه من الشؤون الحساسة الخطرة يظلون متمسكين بسكوت عنه مطبقٍ ضاجّ، أضف إليه الفساد الثقافي واللغوي الذي يبقى عندهم غير منظور ولا مفكرٍ فيه. ولسنا ندري حتّام يسترسل سباتهم المديد، وما السبيل إلى تحريك سواكنهم وضمائرهم كيما يكفوا عن صراعاتهم الصغيرة ويلتزموا بإعادة ترسيخ ثقافة القيم والأساسيات وشيوعها.
وختاما، لا يخفى على إدراك المحلل أن الغاية المضمرة عند أعداء اللغة العربية من دارجيين وسواهم هي التأدى في آخر المطاف إلى خدمة مشروع تسييد اللغة الفرنسية كحل موحِّدٍ بديل للتشرذم اللغوي واللهجي الذي يعملون على إنشائه وفشوه، وذلك حتى تصبح بلدان المغرب على شاكلة الولايات والأراضي من وراء البحار التابعة لفرنسا (DOM-TOM)، أو منضوية في بلدان القارة السمراء المتبنية تلك اللغة كلغة رسمية، وهذا ما لا نبتغيه لبلادنا ولا نرضاه.
هسبريس