بنسالم حِـمِّيش
في مقالة سابقة (“بين مشرق ومغرب”، نشرت في هسبريس) تطرقت لمظاهر الاستنقاص وأحيانا الازدراء عند عموم المشارقة إزاء حاملي المعرفة والآداب من المغاربيين. وأمامها كانت صورة يغمراسن بن زيان كثيرا ما تحضرني، وهو مؤسس دولة بني عبد الواد أوائل القرن الثامن بالمغرب الأوسط، وهم زناتيون من بني عمومة المرينيين.
وقد عُرف هذا الأمير بحكمته الحسية وحنكته السياسية، مكّنتاه من استرجاع عاصمة ملكه تلمسان من الحفصي أبي زكريا يحيى (المصمودي الأصل)؛ وذلك بتلبية شرطه القاضي بذكر اسمه على المنابر. فقال قولاً بليغا يذكّرنا حقاً بعقلية الرعيل الإسلامي الأول؛ إذ إنه به يفرغ الدلالة من مدلولها ويردها إلى عراء وفقر دالها: “تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاؤوا”، كما أورده ابن خلدون مؤكدا أن يغمراسن قال كلمته بلسانه البربري، ولم يُحفظ نصها الأصلي.
أستحضر إذن ذلك الوجه النيّر، فأكيِّف قوله لموضوع هذه المقالة، متمغربا بل متمزّغا؛ أي نازلا إلى عمق البلاد، وما أدراك ما العمق! وبدوري أقول: تلك أعواد استكبار المشارقة وزهوهم ينشرون عليها ما شاؤوا.
لكن ما إن يتمّ لي ذلك حتى يواجهني ليخرجني من تمزغي الـمـُطبق أحد حفدة يغمراسن، هو أبو حمو موسى الثاني ليعرض عليّ ديوانه الشعري موصيا إيّاي: هذا قبل مؤلفي واسطة السلوك في سياسة الملوك. لبيت، فإذا بي أجده وثيق الصلة بأشعار العرب نظما وبلاغة، بالرغم من بعض الكلف والتصنع، فاستخلصت أن صاحبه من هذا الباب سليل قوم مستعربين، كالعدنانيين ونخب الفرس والأتراك والأكراد وأقوام القبطيين ومسيحيي الشام والعراق وسواهم ممن سموا الأعاجم.
أما المؤلَّف المذكور فإنه يشتمل على نصائح إلى وليّ عهده، هي من صلب معايناته وتجاربه، حررها بعربية مسجوعة معتبرة. والنص إجمالا ينم عن حس واقعي فائق ومعرفة جادةٍ مُجيدة بطبائع السياسة ومطابخها، كما عن دراية بفنون الحرب وتدبير العلاقات مع الرعية والجيش. ومرجع الكتاب الميداني يدور أساسا على الصراعات الزناتية البينيةِ الضارية.
وأثناء قراءتي لأثر الأمير، خامرني سؤال مشوب بشيء من الاستغراب: لِـم لم يكتب حمو الزياني ويخلِّفْ شعرا بلغة قومه الأقربين، ولم يحرر بها أيضا كتابه السياسي، سيما وأنه موجه إلى هؤلاء وإلى ابنه ووارث سره؟
والسؤال يُلقي بعض الشك في أن الجدَّ المؤسس يغمراسن كان أُحاديَ اللسان؛ إذ قد يكون تفوهَ بكلمته آنفة الذكر وهو في حالة شعورية أحوجته إلى ذلك. ويزداد الشك حين أستعيد تاريخ الزناتيين في المغربين الأوسط والأقصى، واقفا عند ظاهرة انضوائهم في حركية الانصهارات والمصاهرات التي عنت أساسا قبائل بني هلال وبني سليم وأفخاذهم، وهذه القبائل الوافدة خلال منتصف القرن الرابع (ونعرف قصة تغريبتهم) لا ريب أنهم لعبوا دورا في تقوية تعريب العبد الواديين فضلا عن المرينيين، وأن هؤلاء تخصيصا قد استألفوهم كعضد عسكري وإلى حدّ ما في سياستهم الدينية المالكية الأشعرية التي عولوا عليها للتعويض عن نقصهم المذهبي (أو الإيديولوجي بتعبير اليوم)، ولمجابهة حفصيي تونس خلفاءِ الموحدين المصامدة، ومن ثمة نشأ نشاطهم الشغوف في تشييد المدارس والمساجد والأبنية ذات الطابع الديني، تثبيتا لشرعيتهم وإبرازا لأحقيتهم في ترسيخ حضور الإسلام وإشاعته وتثمين لغة القرآن ونشرها.
حيال تلكم الوقائع والتحولات، ماذا عساي أفعل؟
هل أصبُّ جامَّ غضبي على الزناتيين وأنعتهم بشتى أصناف الذم والقدح والتهمِ التخوينية، كما فعل مؤرخون من صنف غوتيي وتيراس ومارسي الذين اعتبروا غزو الهلاليين للمغرب أكبر كارثة في تاريخ المغرب الوسيط؟ هذا مع العلم أن هؤلاء وغيرهم خصوا العرب والأعراب والبربر على حدٍّ سواء بازدراء عنصري دفينٍ معلن… حاشا أفعل هذا ولو مثقال ذرة. وإن تمزغت هذه المرة فلأعرض عن أمثال أولئك المؤرخين أجمعين، بمن فيهم شارل-أندري جوليان في طوره الأول؛ إذ إنهم كانوا للاستعماريْن الاستيطاني والحمائي دالين مرشدين، ولتغلغله ممهدين موطدين.
هل عليّ أن أتشح بسواد المالنخوليا والارتكان إلى حرفِ التمنّي مناجيا نفسي: لو أن الزناتيين توحدوا ونبذوا المعارك البينية، ولم يستقووا بالأعراب بعضهم على بعض، لو أنهم صرفوا جهدهم للإبقاء على لغة الأجداد وإنعاشها كما فعلوا في سبيل لغة الضاد… وصاح بي صوت خفي: بحرف لو أو لَيْتَ يمكن يا هذا إحراق روما أو حشر باريس في قنينة، فقف للتاريخ كما جرى وادرسْ واعتبر.
إن من جهة إعمال قوة العقل والبصيرة، لا بد لي من أن أعول على تنمية نصيبي من تمازيغت، مشخصا في ما سماه المختار السوسي “الشلحية”، كما لا بد لي أيضا، وباللزوم، من جعل وكدي في تملك العربية أكثر فأكثر على نحو سياديٍّ طليق.
نصيبي من اللسان الأمازيغي ما زال دون ما أريد وأبتغي. وزادي الزهيد فيه أنزع أحيانا إلى تصريفه في بعض رواياتي، خصوصا حين يتعلق الأمر بشخصية أمازيغية أرتئي أن تحضر بلغتها على الأقل في الحوار. وهذا مثال عليه لواحد يخاطب محبوبته: “إيغ جُّو تساقسات يان واسّ إيس إيلاغ دونيت كران-وكاز ليّ يحبّان”؛ وتعريبه “إذا تساءلت مرةً هل في الدنيا رجل يحبك، تذكريني، إنه أنا”. وهذا آخر: “أوال نّمْ أيونو/ آيس داس تِّنيخْ أماري إثَنّه ريخ”؛ وتعريبه “في لغتك يا أماه أبثُّ لوعتي المحرقة”. وما كان يمنعني من إيراد أمثلة أخرى هو اعتراض الناشر على الإكثار من وضع هوامش الترجمة فتصعب وحدة النص المقروء…
ومن جهة أخرى، هذا سياسي مغربي كان من الأصدقاء، عُرف بتعصبه للأمازيغية والدفاع الشرس عن بيضتها في كلامه وخطبه، بيد أنه لم يكن يتعنى تعلم أي شيء منها. وذات مرة كلمته بالهاتف لأعتذر له عن حضوري عشاء المساء فقلت له: “مامنْك صحتنَّك… سُرفي آد نيس إيمنسي”، فأجابني مستغربا: “آش هذ الشرابيا؟”، رددت عليه فورا: “إنها ما تدافع عنه يا منافق”.
كما أن نصيبي الزهيد ذاك أنفقته ذات يوم من سنة 2011 في كلمة ألقيتها وقت افتتاح مهرجان أحيدوس بعين اللوح، بصفتي وزيرا للثقافة إذّاك؛ إذ قلت في مطلعها: “أيتما د اسْتما: أزول سلام ربّي فلاّون. لاوْنْ التنيخ مرحبا إسّون مرحبا مرحبا. تيس يَانْ دْمَرَاوَدْ ذْ أوموگار أحدوس. نُويُوزَعْ أسْتُودَرَتْ تغزّافت…” الخ. وأذكر أني ألححت على تأثر رقصة عبيدات الرمى الأعرابية بأهازيج أحيدوس وأحواش…
ولعل ولعلي بتشلحيت مرده إلى ولعي باللغات عموما وربما لكوني متحدرا من أسرة حمامشى المكناسية الموئل، التي توجد في منطقتي الشاوية والقبايل، ولكن حتى في اليمن أيضا كما وقفت عليه منذ بضع سنوات، ولم أتعجب كثيرا لهذا بسبب ما فعلته الهجرات والمصاهرات في تاريخ بلداننا الوسيط؛ لذا أصنف نفسي، ككثير غيري، فأقول: إني عربري…