بلحبيب: المعجم التاريخي للغة العربية وصل لماضي الأمة بحاضرها

نظم فضاء الثقافة والتربية والتكوين بجمعية النبراس للثقافية والتنمية بوجدة، محاضرة عملية يوم الأربعاء 19 – 12 – 2018، حاضر فيها الدكتور رشيد بلحبيب في موضوع:“تجربة المعجم التاريخي للغة العربية”، يأتي ذلك في سياق الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، وكذلك بمناسبة إطلاق البوابة الإلكترونية للمعجم التاريخي للغة العربية، والدكتور رشيد بلحبيب من المساهمين في فكرة المشروع منذ أن كان فكرة جنينية، شارك في تأسيسه ويشغل حاليا  نائب المدير التنفيذي لمشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، واستهل اللقاءبكلمة المسير الذي أشار إلى المكانة العلمية للمحاضر باعتباره أحد الوجوه البارزة في المجال الأكاديمي والبحثي في المغرب والوطن العربي، من خلال إسهاماته المتميزة في المجال البحثي من جهة وإسهاماته في الدفاع عن اللغة العربية.

وفي بداية المحاضرة أكد الدكتور رشيد بلحبيب على أن إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية يشكل حدثا مفصليا في تاريخ المعاجم العربية، وربما العالمية نظرا لتاريخ اللغة العربية الطويل، وعراقتها وصعوبة إعداد معجم يؤرخ لألفاظها، وتعود بداية فكرة المعجم التاريخي الخامس والعشرين من شهر أيار/ مايو 2013، حينما تبنى المركز العربي فكرة العمل في مشروع بناء معجم تاريخي للغة العربية، ويعتبر معجم الدوحة التاريخيذاكرة اللفظ العربي تؤرخ للألفاظ العربية ودلالاتها المتغير بتغير الأزمة.

كما أشار الدكتور في كلمته إلى أنه خلت على الدعوة إلى إنجاز المعجم التاريخي للغة العربية عشرات السنين، ولما يُكتب له الإنجاز، رغم محاولة هنا أو هناك أو هنالك، لا تكاد تقوم حتى تكبو أو تخبو، أو تنقصها الوسائل فلا تربو.

وظلت اللغة العربية للأسف الشديد ردحا من الزمان، دون معجم لألفاظها؛ يرصد نشأتها وتطورها، واستعمالاتها وامتداداتها، مع أنها اللغة التي عُمِّرت أكثر مما عُمِّر نوح عليه السلام، وانتشرت في أصقاع الأرض انتشار الإسلام، فاللغة العربية في ظل ذا المعطى ظلت تحيى وتنمو خارج معاجم اللغة العربية، فإذا استثنينا تجربة الخليل، فمعظم المعاجم التي جاءت بعده لم تستطع أن تضيف عنه في المادة فكانت إما ناقلت عن الخليل وأما مختصرة لمعجمه العين، لكن المعجم التاريخي للغة العربية سيستوعب كل ألفاظ اللغة العربية لكونه لن يعتمد على المعاجم فقط في جمع مادته اللغوية وإنما سيعتمد أيضا على النصوص في مختلف العلوم.

ومن الموجيات التي يراها الباحث ضرورية لإنشاء المعجم التاريخي للغة العربية، من بينها خدمة الهوية العربية، حماية تراث الأمة واستكمال عناصره، توحيد الأمة بتوحيد لغتها، بالأضافة إلى موجبات حضارية من بينها الاقتداء بدول العالم التي وضعت معاجم للغاتها، بل إن هناك من الأمم من وضعت أكثر من معجم تاريخي للغتها كالفرنسية، فهذا المعجم من أهدافه الارتقاء باللغة العربية إلى مصاف اللغات العالمية الحية. وسيصل ماضي الأمة بحاضرها.

وكان لغياب هذا المعجم التاريخي الأثر السلبي العميق، في فهم التراث العربي وتقويمه وتوظيفه، وفي محاولات تجديد معرفتنا العلمية العربية المعاصرة، بل إن الأمر وصل في بعض الأحيان إلى رسم خرائط معرفية مغلوطة لمجموعة من القضايا المعرفية.

وقد علم المؤسسون لفكرة ال المشروع التاريخي للغة العربية أن سد هذه الثغرة الكبيرة في بناء الذات، قبل التمكن من ناصية مفاتيح التراث، يحتاج إلى تضافر كل الجهود، لإنضاج رؤية، فمنهجا، فخطة تستوعب كل قضايا المعجم التاريخي النظرية والمنهجية والتطبيقية، لينطلق المشروع على بصيرة، ويسير السير فيه على رشد، ويتم إنجازه بإحسان، على عين أهل هذا الشأن. وذلك ما كان في البدايات التي شهدت إسهام نخبة من الأكاديميين في بلورة التصورات النظرية لمشروع المعجم التاريخي التي،أضاف الدكتور رشيد بلحبيب أنها استغرقت زهاء الثلاث سنوات، تم فيها وضع التصور العام، وهي مرحلة لم تكن بالهينة يضيف الباحث، خاصة وأنها شهدت نقاشات حادة في بعض القضايا من قبيل اعتماد أو استبعاد المخطوطات في التأسيس للمعجم.

وينفرد هذا المعجم برصد ألفاظ اللغة العربية منذ بدايات استعمالها في النقوش والنصوص، وما طرأ عليها من تغيرات في مبانيها ومعانيها داخل سياقاتها النصية متتبعا الخط الزمني لهذا التطور، وبالنظر لتاريخ اللغة العربية الطويل وضخامة حجم نصوصها يجري إنجاز المعجم على مراحل، وذلك باستغلال علوم اللغة الحديثة التي يسرت من مهمة المشتغلين خاصة لسانيات المدونات واللسانيات الحاسوبية.

أما بالنسبة إلى أهمية الحدث وفرادته فأكد ، نائب المدير التنفيذي لمشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، أنالأمّة أصبحت بوجود معجمٍ تاريخي للغتها، قادرة على أن تجمع تراثها الأدبي والديني والعلمي والثقافي المبثوث في النصوص جمعا واحدا؛ ينبني على ذلك أن الأمّة العربية أصبحت قادرة على إضفاء طابع النظام على فكرها في سيرورته التاريخية، كما انعكس في مرآة لغتِها، وقد ذكر الباحث أن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية انفرد بإنجازه على غير منوالٍ سابق في اللغة العربية، بإعداد زهاء مئة ألف مدخل معجمي، مرتبة ترتيبا تاريخيا من أقدم نقشٍ أو نص إلى عام 200 للهجرة، مشيرا إلى أن معجم الدوحة التاريخي، في مرحلته الأولى، عمل تأسيسي منفتح على المراحل الموالية، وقابل للتّحديث المستمر، ومفتوح أمام مشاركة العلماء والباحثين باقتراح التصويب والتعديل والإغناء.

كما أنه سيفتح ورش البحث في قوانين التطور اللغوي. وسيرتقي بالبحث اللغوي من البحث في العموميات إلى البحث في النظم والبنى التي تحكم الظواهر اللغوية بشكل نسقي، وسيسد الفجوة التي كانت بين المعاجم العربية والتطور في الحقول المعرفية الذي كان يقضي بظهور مفردات جديدة خاصة في مجال المصطلحات والتي لم تستطع المعاجم أن تضيفها لمجموعة من الاعتبارات التي كانت سائدة بين اللغويين كاعتبار الفضاحة وعصر الاحتجاج وغيرها.

وبالعودة لجذور  الفكرة استطرد الكلام بلحبيب منوها بالإنجازات التي حققتها مشاريع سابقة، وهنا يمكن أن نستحر بعض التجارب بدءا بإنشاء مجمع اللغة العربية في مصر عام 1932 ومساهمة المستشرق الألماني أوغست فيشر الذي سعى إلى تسجيل تطور اللغة العربية حتى عام 300 للهجرة، وجاءت بعده محاولات أخرى، منها عمل الشيخ عبد الله العلايلي في لبنان، ومحاولات البدء بجمع شواهدَ في المشروع التونسي للمعجم التاريخي العربي الذي نجح في جمع شواهدَ من 90 شاعرا جاهليا من عام 200 إلى 609 للميلاد، ومحاولة اتحاد المجامع اللغوية والعلميّة العربية، إذ عُقدت عدّة ندوات وشُرع في اختيار المصادر الأساسية والثانوية للمدونة، وجهود المغاربة في فاس مدينة بالخصوص، وهو جهود مقدرة بالتأكيد.

غير أن هذه الجهود مع ما حققته لم يصل فعلا إلى إصدار معجم تاريخي للغة العربية، كما أكد ذلك عزمي بشارة في إحدى اللقاءات العلمية، وآيس اللغويون العرب تحقيق حلمهم، إلى أن تبنّى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وطرحها على سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي كان حينها وليا للعهد، فتحمس لها وساندها منذ بداية العمل. وأضاف بلحبيب قائلا لقد امتلكنا الجرأة على بناء هذا المركب والإبحار به في بحر تاريخ اللغة العربية، وأثبتنا بالمنهج العلمي والمهارات الإدارية والعمل الجماعي الممأسس، في المجلس العلمي والهيئة التنفيذية وفرق المعالجة المعجمية، أنها ممكنة التنفيذ. واستطرد،فالمسلك لم يكن سهل والمهمةمعقدة دونها مشقات أدركنا بعضَها وجهلنا غيرَه في تلك المرحلة. ولكن الرؤيةَ والعزيمةَ توافرتَا، وهي التي منحتها للمشروع قيادةٌ متميزة، فتوافرت الثقة بالقدرات والكفاءات العربية والعمل الجماعي الممأسس، وتسخير التقنيات الحاسوبية على نحوٍ غير مسبوق، وتطوير ما لم يتوافر منها في خدمة العربية.

فقبل الإعلان الرسمي عن انطلاق المشروع في 25 مايو /أيار 2013، تم التحضير له قبل ذلك بسنة ونصف السنة، وكان اهتمام المشتغلين منصبا على تقييم مختلف التجارب السابقة وعلى تحديد المتطلبات العلمية والمنهجية والبشرية والتقنية والحاسوبية، وقاموا بنشر كل ذلك في كتاب بعنوان “نحو معجم تاريخي للغة العربية” وهو من منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة. وعلى أساس ذلك، وُضعت الخطة التنفيذية، وتقوم المنهجية المتبعة أولًا على إعداد بيبليوغرافيا شاملة لكل ما كتب باللغة العربية مطبوعًا لا مخطوطًا، وتم تقسيم ذلك إلى خمس مراحل، ومن سمات التقسيم المعتمد أنه تقسيم إجرائي لا يأخذ بعين الاعتبار العوامل السياسية،لأن الهدف في نهاية المطاف هو المعجم التاريخي يَبسُط تطوّر اللفظ في سياقه التاريخي إلى اليوم. فأي تقسيم إنما سيكون تقسيمًا مرحليًا ومؤقتًا وإجرائيًا. لذلك قسّمت المراحل بناء على ما ستحتويه المدونة اللغوية من مادة يكون بالمقدور التعامل معها من ناحية حجمها، إذ لو اتسع الزمن واتسع العصر وامتدأكثر من اللازم، لا نستطيع التحكم في حجم المدونة اللغوية الضخم، فكان التقسيم على أساس ما يستطاع التحكم به في بناء المدونة اللغوية ومعالجة موادها. وذلك باعتماد منهج الإحصاء الشامل.

وتمتد المرحلة الأولى للبيبليوغرافيا من عام 430 قبل الهجرة إلى عام 200 للهجرة، وشتمل المرحلة الأولى على قرابة مئة ألف مدخل معجمي، تمت معالجته، وشارك في جمعه قرابة 300 من أساتذة الجامعات والخبراء والعلماء في عدد من الدول العربية والعامية.

والمعاجم التاريخية كما أكد الدكتور عزمي بشارة ترتبط في جميع اللغات بالنهضة والتنوير، لأنّ اللغة صنوٌ لنهضةِ أيأمة، ويكمن الفرق بين النزعة التاريخية النهضوية التنويرية والنزعة التاريخية الرومانسية في أن الأولى لا تعود إلى الماضي نكوصا لتكريس صورة عن عصرذهبي لا يتلوه إلا الانحطاط، ولا من أجل بلورة ما تعتبره شخصيةالأمة وروحها، بل لكتابة تاريخِ الأمة، ومسارِ تطور معارفها، وفهمِ أحداث الماضي في سياقها بأدواتٍ عقلانية؛ وذلك من أجل الانطلاق نحو المستقبل.

إن هذا المشروع العظيم والحدث التاريخي لإطلاقه لم يكن ليرى النور لولا الرؤية والإيمان بالعمل العربي المشترك والكفاءات العربية والإدارة السليمة، فكتب له النجاح بواسطة التعاون بين العلماء والهيئات التنفيذية والخبرات الحاسوبية، وذلك بعد أن توقفت مبادرات أخرى لوضع معجمٍ تاريخي للغة العربية في منتصف الطريق في السنوات الماضية.

في الأخير لا بد من التأكيد على أنعناية المعجم بالمواءمة بين المعرفة التراثية التي تركها الأجداد، والمعرفة الإنسانية الحديثة التي شهدت ثورة علمية في مجال العلوم اللغوية عامّة وعلم صناعة المعاجم على وجه التخصيص، رائدة يفخر بها كل محب للغة الضاد، وخير هدية تقدم للغة العربية هي مبادرات في هذا المستوى تخدمها في مستوياتها البحثية والتداولية والتكنولوجية مادامت التقنية اليوم هي فلسفة العصر ولسان القوم، فمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية مشروع أمة، سيعيد رسم خرائط المعرفة العربية على أرضية علمية متينة تبعد كل الشبهات التي ما فتئ الإعلام الموجه يسم بها الأمة.

“رب همة أحيت أمة”

إعداد: بنيونس عليوي

طالب باحث بسلك الدكتوراه

التعليقات (0)
إضافة تعليق