د. سلمان بونعمان
بعد تطرقنا لطبيعة الصراع اللغوي بأبعاده المركبة النظرية والتطبيقية، نأتي إلى تحليل الوضع اللغوي المغاربي عموما والمغربي خصوصا، فقد تعرضت اللغة العربية الفصحى في الفترة الاستعمارية لوضع خاص جعلها بمثابة الحاضر والغائب في الآن ذاته. فمن جهة تم دخول عنصر لغوي جديد في حياة المغاربة يتمثل في عرض تعليم لغات أجنبية في المدارس والمعاهد بأساليب وطرق جديدة لم يكن للمغرب سابق عهد بها، في حين ظل تعليم اللغة العربية الفصحى في المدارس العمومية وفي معاهد التعليم الأصيل متأخرا يتوسل بأساليب قديمة ومنفرة، فقل الاهتمام بها وأخذت اللغة الأجنبية تحتل مكان الصدارة في التعليم والمعاملات الإدارية والاجتماعية والاقتصادية. وانطلاقا من هذا الوضع سنجد الإدارة المغربية في الفترة الاستعمارية تتوزع بين إدارة مخزنية تقليدية تعتمد اللغة العربية الفصحى في ظهائرها ومراسلاتها بصورة كاملة، وإدارة عصرية تعتمد اللغة الفرنسية لا غير، وتتميز بتقدمها وتطورها لأن الاستعمار عمل على أن ينقل إليها مجموعة من التقاليد والنصوص التشريعية والإجراءات التدبيرية الفرنسية[1].
ومع دخول الاستعمار الفرنسي والإسباني إلى المغرب، انقلب الوضع اللغوي رأسا على عقب، بفرض اللغتين الفرنسية والإسبانية بالقوة كل في منطقته التي يحتلها، وسلب من العربية دورها الأساس الذي كانت تقوم به في هذه المجالات الرسمية كلها، ولم يبق إلا الحيز الديني وحيز ضئيل جدا من المجال التعليمي من خلال المدارس الدينية[2]. كما تم إحداث كرسي اللغة العامية المغربية في معهد «الإنالكو» بباريس الخاص باللغات الشرقية الحية، في عشرينيات القرن الماضي، كما سعى الاستعمار إلى تثبيت الفرنسية في الإدارة والتعليم، مع تدريس الدارجة إلى جانب العربية و”اللغات البربرية” كما سماها، مبرمجا الدارجة بوصفها لغة ثانية في مرحلة البكالوريا (الثانوية العامة)، ليتطور الأمر إلى حد اعتبار اللغة العربية لغة ميتة، وتسويق البديل في اعتماد العامية بوصفها لغة وتسميتها بـ”المغربية”.
وهناك عشراتُ النصوص التي تشهد بالنية المصرَّح بها لمحاربة اللغة العربية وتعليم القرآن الكريم، لأنه بتعليم العربية ينتشر الإسلام في المنطقة، ونشرُ الإسلامُ يسيرُ في ركابه نشرُ الثقافة العربية، والأمران معاً ضد سياسة فرنسا ومصالحها[3]. وقد وردت هذه النصوص والوثائق الهامة في عمل مترجم من كتاب الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب، للدكتور عبد العلي الودغيري، نشير هنا إلى ما قاله جود فروي ديمُونبين في كتابه[4]: L’œuvre française en matière de l’enseignement. وفيه يقول متحدثاً عن السياسة اللغوية التي رسمتها فرنسا للتعليم بالمغرب:”على أن برامج سنة 1920م قد أبعَدَت من جميع المدارس القروية دراسةَ العربية الفصحى، وأوصت بعدم فتح كُتّاب جديد في الأرض التي لا يكون موجوداً بها من قبل”[5].
إن سياسة فرنسا تُجاهَ اللغة العربية الفصحى كانت واضحةً لا لبس فيها، وهي محاربةُ هذه اللغة بكل وسيلة ممكنة وقطعُ الصلة بكل ما يؤدي إلى نشرها وتعلُّمها، لأن الهدف المرسوم هو تطويرُ المغاربة والبربر منهم بصفة خاصة خارجَ إطار هذه اللغة والانتماء للحضارة العربية الإسلامية [6]. وقد عَمِلتْ من أجل ذلك على إغلاق كتاتيب تعليمِ القرآن ومُحاربة معلِّمي القرآن، والتقليص من حصص تعليم العربية في المدارس الرسمية المزدوجة، وإحداث مدارس فرنسية خالصةٍ تابعة للبعثة التعليمية الفرنسية وخاضعة لوزارة التعليم الفرنسية مباشرة، أو مدارس كاثوليكية تحت مُسمَّيات واضحة أو مُتستِّرة، ومدارس أخرى فرنسية بربرية، كما عَمِلَت على إحداث معهد عالٍ لتعليم الدارجة المغربية لتخريج الأطر والمساعدين القادرين على مخاطبة المواطنين بالدارجة عوض الفصحى[7].
لقد بدأ تسييس الوضع اللغوي في المغرب، مع بداية السياسة اللغوية والتعليمية الاستعمارية الفرنسية التي بنت خططها على خلق صراع لغوي وثقافي وعرقي بين المغاربة الأمازيغ والمغاربة العرب في بداية القرن العشرين، ولم يكن الهدف من هذا الصراع الاهتمام بالأمازيغية، بل كان محاربة العربية وإضعافها وإحلال الفرنسية مكان العربية، لأسباب سياسية تتمثل في أن العربية-في تصور الفرنسي- تؤدي إلى معرفة الإسلام وانتشاره، وهذا يدفع المغاربة إلى التوحد لمقاومة المحتل الفرنسي المسيحي، ويهدد بالتبع المصالح الجيوسياسية والاقتصادية للمحتل[8]، حيث هدفت السياسة الاستعمارية من وراء القضاء على اللغة العربية إلى اختراق الهوية الثقافية للمغرب واستبدال عناصرها ومكوناتها الأساسية، وفصله عن المشرق وانتزاعه من حظيرته التي كان ينتمي إليها حضاريا وثقافيا ودينيا وتاريخيا وجغرافيا، وهي حظيرة العالم العربي والإسلامي، والسعي لخلق إنسان مغربي مستلب فكريا، مفكك الشخصية، تابع ثقافيا وسياسيا واقتصاديا إلى المجالات الحيوية للاستعمار حتى يسهل ابتلاعه وهضمه وإتلاف وجوده نهائيا، بالإضافة إلى إضعاف الوازع الديني عن طريق إضعاف العربية لكونها اللغة التي ينتشر بها الإسلام ويترسخ بها وجوده. ولقد اعترف بهذا موريس لوجلي حين قال:” ليس هناك إسلام حقيقي دون نشر اللغة العربية”، كما سعت فرنسا المستعمرة إلى تفكيك وحدة المغرب وتمزيق كيانه وتضخيم الفروق الثقافية والتعدد اللغوي، وكانت اللغة وسيلة من وسائل التفرقة خصوصا مع الظهير البربري[9] الذي صدر في16 ماي 1930[10]، الذي أدركت الحركة الوطنية ومن ورائها كل المغاربة أبعاده التمزيقية لوحدة المجتمع المغربي، فقاومته مقاومة شعبية قوية دفعت المستعمر إلى التراجع عنه.
إن المغرب المستقل ورث واقع صراع العربية مع لغة التعليم العصري والإدارة مع الرغبة في النهوض باللغة العربية الفصحى وحمايتها وتحصينها. وهكذا وجدت اللغة العربية الفصحى نفسها تتنازع مع اللغات الأخرى وخصوصا اللغة الفرنسية ما يسمى بـ”الهيمنة الرمزية والعملية”، مما جعل ملف التعريب بعد استقلال المغرب، محورا أساسا في برنامج القوى الوطنية[11] الأصيلة في سعيها لحماية اللغة العربية باعتبار ذلك جزءا من النضال الوطني المستمر، وبوصفه أيضا مظهرا من مظاهر الاستقلال عن المستعمر الذي كانت اللغة الفرنسية من أهم رموزه، فضلا عن ذلك فقد نُظر إلى التعريب على أنه وسيلة لتحقيق الاستقلال الثقافي والحضاري وربط المغرب بالبعد القومي العربي والإسلامي. فتم ربط الاستقلال السياسي بالتحرر اللغوي والتربوي والاقتصادي لمغرب ما بعد الحماية، وبناء عليه شهدت هذه الفترة عدة إجراءات وقرارات صب مجملها على رد الاعتبار للغة الرسمية وإعطائها المكانة اللائقة بها[12] أهمها قرار التعريب. لكن الأمر سيعرف سجالا سياسيا حادا وتوترا في كثير من محطاته نتج عنه أن المسألة اللغوية بالمغرب ظلت موضوعا مركبا لا يتم طرحه أو معالجته إلا وفق منظور التقلبات الظرفية والحسابات السياسية الضيقة، في غياب رؤية واضحة وسياسة لغوية منسجمة ورشيدة وجريئة. مما أفرز حالة من الفوضى اللغوية ووضعا لغويا ملتبسا. ولم يقدر لكل هذه المحاولات الإصلاحية السابقة النجاح المنتظر نظرا لغياب الموارد المالية الكافية ولغياب الأطر المكونة تكوينا علميا وبيداغوجيا ملائما، مع فقدان إستراتيجية واضحة المعالم تدخل في إطار سياسة لغوية جريئة وتخطيط لغوي مبني على ركائز علمية موضوعية غير أن ذلك كان من الممكن التغلب عليه، إلا أن التعريب تم إفشاله والتآمر عليه، نظرا لتأثير النفوذ الفرنكفوني في صناعة القرار السياسي والإداري والاقتصادي.
وأمام عجز السياسة التعليمية طيلة العقود الخمسة الماضية التي أعقبت الاستقلال عن اتخاذ قرار حاسم حول لغة التعليم، وفشلها في خلق مدرسة وطنية قادرة على تكوين مواطنين منسجمين في التفكير، يتقاسمون مجموعة من القيم الأساسية التي توحد مشاعرهم وأحاسيسهم وتعمق جذور التلاحم الفكري والعاطفي بينهم، أمام ذلك عملت هذه السياسة التعليمية، على تكوين نخب من المثقفين والمتعلمين متأثرة بالثقافة الفرنكفونية ولغتها الفرنسية[13] خلافا لما كان منتظرا. إلا أن الآثار السلبية التي خلفتها مرحلة الاستعمار، ثم مرحلة الاستقلال التي تغلغلت فيها اللغة الفرنسية عن طريق المدرسة والإدارة والإعلام بشكل لم تعرفه حتى المرحلة الاستعمارية نفسها، زاد في تهميش العربية إلى أبعد الحدود، أدت فيما بعد إلى نشأة نخبة ضاغطة من ذوي الثقافة الفرنسية، والمتأثرين بسلبيات هذا التكوين الثقافي الأجنبي، استطاعت أن تكون لنفسها تيارا فرنكفونيا قويا تابعا لمصالح فرنسا بالإضافة إلى ورثة النظام الاستعماري، كل ذلك شكل جبهة ممانعة تمارس الضغوط لإبقاء الفرنسية ومعاداة مشروع التعريب وعرقلة مسار تطبيقه[14].
[1] محمد الفران، اللغة العربية في الإدارة المغربية بين الإكراهات والتطلعات، في اللغة العربية في الخطاب التشريعي والإداري والإعلامي في المغرب، ط1(الرباط: مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 2011)، ص122-123.
[2] عبد العلي الودغيري، اللغة والدين والهوية، ط1(الدرالبيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2000) ص88-89.
[3] انظر نماذج كثيرة من هذه النصوص في: عبد العلي الودغيري، الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب، السلسلة الجديدة، رقم7، ط1(الرباط: كتاب العلم، 1993).
[4]طبع هذا الكتاب في باريس سنة 1928، ضمن من منشورات المكتبة الاستشراقية بول جودنر وهو في الأصل أطروحة جامعية قدمها المؤلف حول السياسة التعليمية للحماية الفرنسية بالمغرب.
[5] الودغيري، الفرنكفونية، ص 161-176.
[6] يمكن الرجوع في هذه السياق إلى النصوص الدقيقة والوثائق التاريخية والمراسلات الموثقة التي تفضح منظري نظام الحماية الفرنسية بالمغرب وشمال إفريقيا، موضحة المعالم الكبرى لسياستهم اللغوية والتعليمية القائمة على فرنسة السكان والقضاء على اللغة العربية. وقد قام بتجميعها وترجمتها والتعليق عليها، الدكتور عبد العلي الودغيري في كتابه: الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب، مرجع سابق.
[7] راجع عبد العلي الودغيري، الدعوة إلى الدارجةُ بالمغرب: الجُذور والامتدادات ـ الأهدافُ والمُسَوِّغاتُ،(الرباط: دراسة غير منشورة، المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، 2010.)
[8] أنظر محمد الرحالي، سياسة التلهيج الفرانكفونية، مجلة رهانات، العدد10 (ربيع 2009).ص: 49، ويمكن الرجوع أيضا إلى: عبد العلي الودغيري، الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب، مرجع سابق.
[9] الظهير البربري، اسمه الأصلي الظهير المنظم لسير العدالة في المناطق ذات الأعراف البربرية والتي لا توجد بها محاكم شرعية، هو قانون أصدره الاحتلال الفرنسي للمغرب ووقعه الملك محمد الخامس في 17 ذي الحجة 1340 هـ / 166 مايو 1930 م. ونص هذا الظهير على جعل سير العدالة في بعض مناطق القبائل الأمازيغية تحت سلطة محاكم عرفية تستند إلى قوانين وأعراف أمازيغية محلية، وفق ما كان الأمر عليه قبل دخول الاستعمار. فيما تبقى المناطق المخزنية السلطانية (مثل فاس والرباط) تحت سلطة قضاء حكومة المخزن والسلطان المغربي.
[10] الودغيري، اللغة والدين والهوية، ص90-94-96.
[11] رغم أن سياسة هذه الحركة في تشجيع اللغة العربية ارتبط أيضا ببدايات تكوين المدارس الوطنية قبل الاستقلال وعيا منها لشروط التحرر وفك التبعية.
[12] من بين أهم هذه المحطات التاريخية نذكر:
سنة 1957 كانت أول محاولة لحكومة ما بعد الاستقلال لتعريب النظام التربوي، غير أنها لم تنجح لغياب الموارد المادية والبشرية. وعرفت سنة 1960 إنشاء معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، حيث شُكلت لجنة من عدة وزارات لتعريب بعض القطاعات الإدارية. ونظم المجلس الأعلى لوزارة التربية الوطنية ندوة خلال شهر أكتوبر 1962 كان من بين توصياتها”وجوب تدريس جميع المواد باللغة العربية من 1963 إلى 1966″. وفي سنة 1972 تم اتخاذ قرار تعريب بعض مواد العلوم الإنسانية والاجتماعية(تاريخ، فلسفة، جغرافيا)بسلك التعليم الثانوي. وتم سنة 1982 اتخاذ قرار تعريب المواد العلمية تدريجيا من السنة الابتدائية إلى نهاية السلك الثانوي. كما تم التأكيد على رسمية اللغة العربية من خلال ما نص عليه الظهير الشريف رقم 167-6-1 بتاريخ 17 ذي الحجة 1380 الموافق ل 2 يونيو 1961 في الفصل الثالث منه، على أن اللغة العربية هي لغة البلاد الرسمية ثم جاءت دساتير 1962-1970-1972-1992-1996، في حين أضاف دستور 2011 مسألة ترسيم اللغة الأمازيغية.
[13] الودغيري، اللغة والدين والهوية، ص127-128.
[14] الودغيري، اللغة والدين والهوية، ص 133-134. بتصرف.