تلقيت منذ أيام تهنئة في بريدي الإلكتروني من الصديق رشيد راحة، الباحث الجامعي المغربي المستوطن في غرناطة، الذي يرأس الكونفرانس العالمي للأمازيغية، بمناسبة ما سماه حلول السنة الجديدة الأمازيغية، التي تبدأ في الثالث عشر من يناير. أرجعتني هذه المبادرة فورا الى فترة طفولتي، حيث حفظت ذاكرتي أني وجدت في تقاليد أسرتي، مثل كل المغاربة، أن الثالث عشر من يناير، كان يحل علينا كيوم خارج عن المألوف، لأنه بدء السنة الفلاحية. ونسميه أيضا ليلة حاكوزة، ولعل الكلمة تحريف لكلمة عجوزة. واستقر في أذهاننا، أن حاكوزة سيدة تأتي خلسة في تلك الليلة، لتتفقد بطون الصغار، وتتأكد من أنها ممتلئة.
تكون العائلة قد تحلقت في اجتماع كامل النصاب، حول عصيدة، ينال كل واحد منها نصيبه. ولا بد أن يتناول كل واحد حصته بالكامل، وإلا فإن الحاكوزة، ستملأ تبنا كل بطن لم يتناول صاحبها كامل نصيبه. لأنه بتناولنا كامل حصتنا، نقدم الشكر لله على النعم التي أعطانا إياها، ليزيدنا من خيراته، «لئن شكرتم لأزيدنكم». في تلك الفترة من السنة، يكون الفلاح قد قلب الأرض، بعد أن أودعها البذور ومعها كل آماله. وينتظر أن تطلع السنابل، وأن لا يخيب الرجاء في أمطار تجود بها السماء. يوم 13 يناير إذن يعلم بداية العام الفلاحي، وفق التقويم اليولياني، المتوارث من عهد الرومان، والذي احتفظ به المغاربة، ولا يخطر ببالهم أنه شيء مستورد. فالتقويم يأخذ بالدورة المناخية كما هي في المتوسط. وأسماء الشهور هي نفسها في اللاتينية، لم يطرأ عليها إلا تحريف في النطق، يطوعها اللسان للطريقة التي تسعف مزاج المغاربة، كما فعلوا حينما اختاروا من بين كل القراءات القرآنية، طريقة ورش.
يحتوي التقويم اليولياني على اثني عشر شهرا، مثل التقويم الغريغورياني. وقد تعايش التقويمان معا، ومع التقويم الهجري. وفي الوقت الحاضر، يتعامل المغاربة بالتقويم الميلادي، الذي أصبح كونيا، لضبط حياتهم المدنية، بجوانبها الإدارية والاقتصادية. بينما يتعاملون لضبط حياتهم الدينية، بالتقويم الهجري، بالنسبة للمسلمين، وهم الأغلبية، واليهود بالتقويم الموسوي. وأخذ كل واحد من التقاويم مكانته، مثل ما يحدث في الطرق السيارة، لكل رتل من السيارات خانته المرسومة، تبعا لسرعة السير. وهكذا فالمغربي، يعيش أربعة أزمنة، في اليوم الواحد. علامة غنى ثقافتنا، وتنوع تراثنا. الناس في الغرب يعيشون زمنا واحدا، ونحن نعيش أربعة أزمنة.
نشأت وأنا أرى أمام ناظري، معلقة في وسط قاعة الجلوس ببيتنا، روزنامة المرحوم بوعياد التي كانت تأتي من فاس، وهي تخصص لكل يوم ورقة. وفي كل ورقة ثلاثة فضاءات، مربع يتضمن تاريخ اليوم بالهجري، والثاني تاريخ اليوم بالفلاحي، والثالث بالتقويم الغريغورياني. وكانت يومية بوعياد، وهي تحمل صورة محمد الخامس، من أول الرموز الوطنية التي دخلت بيتنا. وكان صانعها من الرواد الأوائل للعمل الوطني. وكان هذا المنشور في حد ذاته عملا وطنيا، أدى صاحبه في سبيله ضريبة السجن، في عهد الحماية، وفي ظل الاستقلال أيضا. وللتاريخ فإن روزنامة بوعياد سجلت أن للمغاربة ذاكرة تحفظ للرموز الوطنية قدرها، ومن ذلك هذا التشبث بالتقويم الفلاحي المغربي، الرامز للتمسك بالأرض.
ويأتي اليوم الأستاذ رشيد راحة ليقول لي إن يوم بدء العام الفلاحي، له اسم آخر، ويعلنه عيدا وطنيا، لوطن جديد اسمه تامزغا، يمتد من سيوة إلى كانارياس، وهو البديل المقترح لما نعرفه كمصطلح سياسي وثقافي باسم آخر هو المغرب العربي. إن يوم حاكوزة، الضارب في التاريخ، كان منذ القديم، موعدا اختاره أجدادنا لتجديد ولائهم للأرض المعطاء، مثل كثير من الطقوس والاحتفالات التي لم تندثر مع الزمن لأنها ذات حضور عميق في الوجدان. منذ فتحنا أعيننا على الدنيا، كانت حاكوزة لكل المغاربة. فكيف يتم اليوم تقليص إشعاعها، لتصبح قسرا، رمزا لطائفة منهم دون الأخرى. إنه مسعى غريب على الذهنية المغربية، التي تتعاطى مع رموزها وقيمها العتيدة والعريقة، بسلاسة وعقلانية، وتستوعب كل فترات التاريخ، كما استوعبها علال الفاسي، كامتداد لم ينقطع.
إن المغرب كما صنعه التاريخ، هو مغرب كل أبنائه، بعطاءاتهم المتنوعة، وبتاريخهم الضارب في الزمن. أعود إلى علال الفاسي، فيطالعني أول فصل في كتابه «الحركات الاستقلالية في المغرب العربي»، وهو تمهيد فكري للفصول التي تليه، بعنوان «امتداد». وفيه يقول بالضبط: إننا نحن المغاربة، نحس من حاضرنا وكفاحنا، بما يشعرنا بأن عواطفنا، التي تدفعنا اليوم لمقاومة المستعمرين، في غير هوادة، وفي غير بغض، (ضع خطا تحت عبارة في غير بغض) ليست إلا العواطف التي كانت تملأ روح أجدادنا، منذ أقدم العصور إلى اليوم. فقد عرف المغرب من قبل أن يعرفه الإفرنج ببلاد الأمازيغ، أي الوطن الحر، وعرف سكانه بالإيمازيغن ومعناها الرجال الأحرار.
ويجعل علال الفاسي موطن الأمازيغ ممتدا في ما بين البحر الأحمر والسنغال. ويسلم بأن هؤلاء الأمازيغ كانت تجمعهم في ما بينهم وحدة فكرية وسياسية، وتربطهم أرومة بالفينيقيين المشارقة، الذين لم يعتبروهم غزاة أجانب، على عكس موقفهم من روما. وقال بدون التواء: فالقومية المغربية موجودة منذ القدم، في ما قبل الإسلام وبعده، مبثوثة في كل الآثار المغربية التي سلمت من عوادي الدهر. وهذه الروح القومية هي التي دفعت بأمتنا للاستبسال في سبيل الذب عن كيانها طيلة العصور الوسطى الأوربية كلها. لقد فتح المغرب صفحة مجيدة من تاريخه بعد أن اختار الإسلام دينا، والعروبة انتماء ثقافيا. وتعرب المغرب ديموغرافيا بقرار سياسي من ملك من برابرة مصمودة، هو يعقوب المنصور الموحدي الذي أتى بعرب بني هلال وبني سليم من تونس وأسكنهم ببلاد الهبط. وتأندلس المغرب ثقافيا على يد المرينيين، وتجددت افريقيته على يد أحمد المنصور السعدي الذي تحرك بنشاط في افريقيا الغربية. ومن كل هذا المزيج تكون كيان متكامل، صهرته عبقرية المكان، فدفعته إلى ابتكار طابعه المعماري المتميز، كما هي متميزة تقاليده في الملبس والمأكل والموسيقى وباقي الفنون، والخط المغربي. وهو تميز يعبر عن نفسه في معالم عامة بارزة، لكن، داخل تلك المعالم تنوع غني، يجعل منه، فسيفساء ثقافيا، واتحادا لأعراق، وجدت وحدتها في اختيارات أقدمت عليها بعقلانية. وبهذا العطاء يساهم المغرب في المغرب العربي، كجناح غربي لبلاد تربطه بها أواصر القربى، ووحدة المصير. هذا العطاء الذي تراكم عبر القرون، عمقه أطلسي، وواجهته متوسطية، وروحانيته مشرقية، يؤكد شيئا أساسيا، هو أنه ليس أرض خلاء حضارية، حتى نعرضها اليوم لابتكارات شاذة، تريد أن تنقل حاكوزة من الإجماع إلى التفتيت. وتخلق لنا وطنا بديلا، من قوانينه إقصاء نصف المغاربة، على الأقل، وبتر تاريخ له «امتداد» في أعماق الزمن. وفي عالم يتجه إلى التشكل في مجموعات اقتصادية وسياسية قادرة على أن تلبي حاجات المنتمين إليها، وقادرة على ربح التحديات التي يطرحها العصر، ليس للمغرب، وللمغرب العربي كله، مكان آخر غير المجموعة العربية. والتاريخ لا يقبل النزوات. أنظر إلى تركيا التي ترفضها أوربا رغم ارتدائها البرنيطة. والمجموعة العربية هي بدورها، متنوعة في مشاربها، ولكنها متضامنة في مسعاها لتجميع المقومات، وصولا إلى اكتساب المناعة والقوة، التي بدونها لن يكون للكيانات الصغيرة مكان في العالم الذي يتشكل أمام أعيننا. والتاريخ كما قال كاتب إسباني «إما أن تصنعه أو أن تعاني منه». ألفونسو فالديكاساس.
والدروس تتوالى لتلقننا أنه من مقتضيات صنع التاريخ، الانصياع إلى قانون التكتلات الكبرى. ولا مجال إلى الاجتهاد لاختلاق نعرات تقسيمية، تفتت الوطن الواحد، وتعوق دون تكون المجموعات الكبرى. والتكتلات الكبرى التي تتكون في أوربا وفي جنوب شرقي آسيا وفي أميركا الجنوبية، فضلا عن العملاق الأميركي، الذي يسعى إلى توطيد مكانته بتعهد تجمع نافطا، كل هذه المجموعات، تسير بخطى حثيثة إلى بناء هياكل كبرى قادرة على التنافس، وفي نفس الوقت تقبل التعامل بذكاء وعقلانية مع تنوعاتها الثقافية. ونحن نرى أن الاتجاه نحو التجمعات الكبرى يسير في خط متواز مع الاعتراف بالتعددية الثقافية. حتى على مستوى الدول، لن يوجد بعد اليوم كيان إلا وهو تعددي في هوياته.
وعلى غرار ذلك، فإن المجموعة العربية، حينما تستيقظ وتتجه فعلا إلى بناء هياكل متينة وقادرة على امتلاك شروط التنمية، وفي نفس الوقت تكون مؤهلة لخوض غمار التنافسية، التي هي قانون التعامل في ما بين المجموعات المقتدرة، لا بد من إقرارها بأنها يجب أن تعترف بالتنوع الثقافي الذي يعتمل في داخلها.
وفي هذا السياق، فإن الخطوات التي شرع فيها المغرب، للتعامل بعقلانية مع مقتضيات تنمية ثقافته الأمازيغية، تساير روح العصر، علاوة على أنها تتجاوب بواقعية مع متطلبات توسيع دائرة المنخرطين في معركة التنمية. وبكل تأكيد فإن هذا المغرب الممتد في التاريخ عبر قرون، والمتشكل عبر كل هذه القرون في نسيج متضامن، ومتماسك، تضبط إيقاع مسيرته قيم راسخة، هو ملك أبنائه الذين لا أحد منهم يزيد شرعية على الآخر، ولكل واحد من مكوناته مكان، لا يلغي أحدهم الآخر، وليس لأحدهم أن يحقق ذاته من خلال الخصومة المفتعلة مع الآخر.
هناك أمران متلازمان، أولهما أنه ليس شعب المغرب، من تلك الكيانات التي تجتاز طور الطفولة، فتحتمل إرضاخها للتجارب، وقد تكفل التاريخ بصنع هويته وتحديد انتمائه. والثاني أن مساهمتنا في المجموعة العربية، لا يمكن أن تتم إلا بعطائنا المتنوع والمتميز، عطاء من إفراز كل مكونات الشعب المغربي.