لكن حين يأتي آخر، لا ينتمي لنا ولا لحضارتنا أو لغتنا، ويدافع عن الذي خسرنا الثقة فيه، وينتصر للغة لم تعد تتحدث بها إلا الشعوب المهزومة والمجروحة، نحسّ وكأننا ولدنا مرة ثانية، أو نحسّ بأننا لم نزل نمتلك ما يمكن يوما أن يحمينا.
هنا في مدريد، وفي احتفالية أقامها البيت العربي، لليوم العالمي للغة العربية، قدّم عميد المستعربين الإسبان بيدرو مارتينث مونتابيث، والذي يزيد عمره على الخمسة وثمانين عاما، محاضرة مطولة عن اللغة العربية، تلك التي سماها “سيدة العرب” وخاطبها كعاشق يصف جمال عشيقة بعيدة، وكان في المحاضرة كمن يدلّنا علينا. وفي نهايتها، كان لنا مع مونتابيث هذا الحوار؛ علّنا نتعرّف أكثر على أنفسنا، وعلّ ما سيقوله يعيد فينا بعضا مما تهدّم فينا.
وبيدرو مارتينيث هو مستعرب إسباني، مهتم جدا بالثقافة العربية. عمل أستاذا في جامعة غرناطة، وترأس جمعية الصداقة الإسبانية- العربية، والجمعية الإسبانية للدراسات العربية. مُنح الكثير من الجوائز، منها جائزة التضامن مع العالم العربي. حصل على الدكتوراه في اللغات السامية، إضافة إلى ثلاث جوائز فخرية من جامعات مختلفة. ألّف العديد من الكتب حول العالم العربي، وترجم إلى اللغة الإسبانية أعمالا لأهم الشعراء العرب، مثل محمود درويش ونزار قباني وجبران خليل جبران.
وترجم مونتابيث أيضا مختارات من الشعر الفلسطيني. كما ألّف كتابا بعنوان “القصيدة هي فلسطين” عام 1980، وقد صدر في طبعة باللغتين العربية والإسبانية، مضمناً قصائد لشعراء من العراق وهم عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وفوزي كريم وخالد الشوّاف ومحمد مهدي الجواهري.
العربية لغة عظيمة
(*) معروف عنك انحيازك الكامل للغة العربية، واعتبارها أهم من اللغة الإسبانية، ما الذي رأيته أنت بعد تعمّقك فيها؟ ولماذا برأيك تكون العربية كلغة أهم بمرات عدة من الإسبانية؟
– لقد قلت دائما إن اللغة العربية هي لغة عظيمة، وإن جوهرها يكمن في غناها الحسي والمعنوي والبنيوي، فهي اللغة التي تحتوي على أكثر عدد من المفردات، ومن المصادر، من بين كل لغات العالم، وهي أيضا لغة راقية جدا من حيث طريقة الاشتقاقات، ومن حيث متانة التراكيب، وقدرتها على التخيل، وعلى الوصف.
وهي بالتأكيد، كلغة، أفضل وأغنى بكثير من اللغة الإسبانية. ولقد كتبت عدة مداخلات في عدة صحف، وقدمت عدة محاضرات، وذلك في محاولة دائمة لإيجاد إثباتات لغوية لمدى قوة الجذور العربية في اللغة الإسبانية، مقدماً مفردات عديدة كأسماء مشتقة من أصل عربي ووجودها في اللغة الإسبانية يفوق أربعة آلاف كلمة. ودائما كنت أحاول تقديم هذه الاثباتات للإسبان بطريقة شيقة مرفقة بأدلة مقنعة ومنطقية، في منتهى الدقة والحيادية، ومنها مثلا اسم عاصمة إسبانيا “مدريد”. فهو مشتق من العربية، وأصل الاسم هو مجرى الجليد، والذي تحوّل ليصبح مجريط، وبعدها مدريد. وكل الكلمات التي تبدأ بالألف واللام، في اللغة الإسبانية، هي كلمات عربية الأصل. وربما لم يكن التأثير متوقفا على دخول عدد كبير من الكلمات في اللغة، وإنما هناك ما هو الأهم من ذلك، وهو التأثير العربي في سياق الجملة الإسبانية وطريقة تركيبها في حد ذاتها، ومنها مثلا الأفعال الانعكاسية التي تميز الإسبانية عن باقي اللغات الأوروبية، وهي الطريقة التي تشابه تماما المبني للمجهول الذي يستعمله العرب كثيرا في طريقة كلامهم، وحتى في صياغة الفكرة نفسها، بالإضافة إلى بعض الاشتقاقات للمصدر التي تنتهي بالألف والدال، وهي أيضا من أصل عربي، وهي توافق مثلا كلمة اشتداد القادمة من فعل اشتد، واعتداد القادمة من فعل اعتاد، والتي يقابلها في الإسبانية، فليثيداد أي السعادة، ربسونسيبيليداد أي المسؤولية، وهكذا.
إن العربية لغة طاعنة في قدمها، وهي بكل جوانبها وصفاتها أغنى من الإسبانية بما يزيد عن الخمسة أضعاف فعلًا.
(*) لماذا ترى أن اللغة العربية هي الحصن الأخير المتبقي للعرب؟
– لقد فقد العرب، في العصر الحديث، ولأسباب كثيرة يتحمل العالم بعضا منها، دورهم في بناء الحضارة البشرية، وفقدوا قدرتهم القديمة على الابتكار والتألق، وهم يتعرضون لمرحلة تشابه العصور الوسطى في أوروبا، مرحلة يتفشى فيها الفكر المتطرف، وتموت النهضة. من خلال تجربة تفوق الخمسين عاما مع اللغة والثقافة العربيتين، ومن خلال ترجمتي لأهم الشعراء المعاصرين، وقراءتي للأدب العربي الحديث، أصر على أن اللغة العربية والثقافة العربية بكل ما تحملانه، هما وحدهما فعلا، كما قال الشعراء، الحصن المتبقي للعرب. وعليهم بجدية ووعي وتحدّ أن يحافظوا على هذا الحصن وأن يحموه من الذوبان والانهيار، لأنه يعني حينئذ انهيارهم.
(*) ما هو مدى اعتقادك أن العرب قادرون فعلا على حماية هذا الحصن؟
– من الناحية النظرية، نعم. يعني بسبب غنى هذه اللغة، وهذه الثقافة وعمقها وقدمها، نعم. ولكن من الناحية العملية، ربما سيكون صعبا، خاصة في هذه الظروف العالمية، والظروف التي تعصف بالمنطقة العربية، وتحرمها حقها من الاستقرار والتطور الذي يسكن ثقافتها. برأيي أن المشكلة الأساسية تكمن في أن الإنسان العربي لا يعرف كيف ينظم ويطبق ما يمتلك نظريا من معرفة ووعي ثقافي وإرث حضاري حقيقي منحوت في شخصيته، وإنما يعيش على مجرد التغني به، والبكاء على ماض عريق، كما أنه يبني الكثير من الأحلام قبل أن يعرف إمكانية تحقيقها، وقبل أن يدرس معوقاتها، مما يجعله يصاب بالخذلان والاحباط. كما أني أصر على اعتبار اللغة أداة طبيعية للهوية وليس العكس، واحترام هذه الأداة والمحافظة عليها يعتبران من أول الأمور وأهمها على الإطلاق.
الأندلس جوهرة حقيقية نادرة في
تاريخ التعايش الإنساني الحضاري
(*) بدأت محاضرتك بقولك إن على العرب، كل العرب، وعلى الإسبان، كل الإسبان، أن يحافظوا جيدا على الجوهرة التي بين أيديهم، كيف هذا؟
– نعم، وسأبقى أقول هذا. فالأندلس ليست مجرد قصر صارخ الجمال، وليست مجرد مرحلة تاريخية عابرة، إن الأندلس هي جوهرة حقيقية نادرة في تاريخ التعايش الإنساني الحضاري. ولا أعتقد أن أوروبا أو حتى العالم عرف فترة مثلها، إذ لم يدوِن التاريخ البشري زمنا يزيد على الأربعمائة عام كان يعيش فيه المسلمون والمسيحيون واليهود بهذا التوافق والانسجام والاستقرار العميق. أنا أرى أن الأندلس أيضا هي أجمل وأرقى ما توصلت إليه الحضارة العربية فنيا وفكريا وفلسفيا وشعريا، إذ أن الأيادي التي صممت كل هذا الجمال هي الأيادي التي حملت دمشق بين أصابعها. لقد زرت دمشق وأعرف تماما من أين أتت أصول الحضارة العربية الإسلامية التي تركها لنا العرب في الاندلس. لذا فأنا أرى أن الإسبان يجب أن يقدروا هذا الإرث بكل جوانبه، وأرى أنهم ما زالوا مقصرين في هذا، بالرغم من أن قصر الحمراء هو أكثر الأماكن التي يقصدها الآن السياح القادمون إلى إسبانيا من كل أنحاء العالم. الجزء الأكبر من المشكلة هو أن هناك الكثير من الإسبان لا يريدون ولا يحبون أن يعترفوا بأن الأندلس هي نتاج حضارة عربية، وإنما يرونها جزءا من التراث الإسباني. كما أنهم في دواخلهم يخافون من عودة المدّ الإسلامي واحتلاله للأندلس من جديد، كما تروّج بعض الجماعات الإسلامية الآن، والتي تشوّه كل شيء داخل الإنسان الإسباني، كما أن هذه الجماعات تشوّه الثورات السلمية والديمقراطية، وأيضا ثقافة عمرها من عمر البشرية. كما أني أرى أن الشاعر الكبير نزار قباني كان محقا حين قال: “كل عربي لا يذهب للأندلس/ أو لا يعطي انتباهه للأندلس، هو تلميذ راسب/ ومطرود من درس التاريخ”. فالعرب ما زالوا مقصرين جدا في الاهتمام بقصر الحمراء وبدراسته في مناهجهم المعمارية، وفي دراسة الأدب والفلسفة العربية التي ظهرت في فترة الأندلس، والتي هي من أهم الدراسات والنظريات الفلسفية في كل العالم، ونحن لم نزل ندرس ابن رشد في مدارسنا.
(*) ما هو ذاك الإحساس الذي انتابك حين زرت دمشق القديمة؟
– هو نفس الإحساس الذي انتاب نزار قباني حين زار الأندلس، والذي قال حوله أجمل مقاطعه حين كتب بما يعني أنه وهو يسير في شوارع غرناطة، تحسس جيبه كي يخرج مفاتيح بيته في دمشق. لقد أحسست بهذا الإحساس وأنا أزور دمشق القديمة للمرة الأولى، لقد تذكرت نزار كأني أصبحت هو، ووددت أن أدخل يدي في جيبي لأعثر على مفتاح بيتي في كل من غرناطة، أو قرطبة، أو توليدو مثلا. لقد أحببت دمشق جدا، وأعتقد أنها من كل الجوانب الأم الحقيقية للأندلس، وأنا أعتبر الإنسان السوري إنسانا مميزا فعلا، ويؤسفني جدا أن تدمر الحرب هذا التميز.
نضالي من أجل الفلسطينيين
نضال من أجل إنسانيتي
(*) لماذا تناضل دائما من أجل القضية الفلسطينية؟
– أنا أناضل من أجل العدالة، فالفلسطينيون أصحاب حق واضح وضوح الشمس، وهم مظلومون جدا، وبقاؤهم تحت الاحتلال الصهيوني الهمجي لحد الآن هو وصمة عار على جبين البشرية. لقد استغل المشروع الصهيوني الدين لأبعاد سياسية، وكان استغلالا قذرا. لقد قرأت الشعر الفلسطيني، وهو من أجمل ما قرأت، وترجمت الكثير منه، كما أني ترجمت الشاعر العربي الهام جدا والذي يصعب أن يتكرر محمود درويش، وأنا أعتقد أن ترجمة الشعر الفلسطيني وتقديمه للعالم هو أحد الطرق التي حاولت فيها الوقوف مع هذا الشعب الذي قتل وشرد ظلما، وسأبقى أناضل معه لأني حينها أناضل مع إنسانيتي التي لا أتنازل عنها.
نشر في ضفة ثالثة