المجلس الوطني للغات: الانطلاقة المنحرفة

رشيد الإدريسي

لكيلا نصنع الاختلال

كل مؤسسة كيفما كان نوعها اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية… عندما تظهر للوجود، يُفْتَرَض فيها أن تساهم في الإبقاء على وضع إيجابي وتُمَأسسه، أو تساهم في تجاوز اختلال ما على أرض الواقع وتقاومه.

والمؤسسة لكي تقوم بهذا الدور، فإنها يجب أن تخضع لعملية تفكير عميق يضبط التصورات التي ستقوم عليها، ويحدد المنطلقات والأهداف والوسائل بشكل يراعي المصلحة العامة. والتركيز على هذا الجانب التصوري في تشييد المؤسسات ينتهي بنا إلى أن المورد البشري، المتمثل في وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، هو المنطلق وحجر الزاوية الذي بغيابه تصبح المؤسسة صانعة للاختلال وأداة لجر الوطن إلى الخلف بدل التقدم به إلى الأمام.

نقول هذا الكلام بمناسبة تعيين اللجنة المكلفة بإعداد مشروع القانون التنظيمي للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وهي اللجنة التي أسندت رئاستها لإدريس خروز مدير المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، والتي حظيت بموافقة الملك محمد السادس. فهل راعى إدريس خروز شرط اختيار من يستحق فعلا أن يسهم في صنع مستقبل المغاربة؟ هل راعى شرط النزاهة والاستقلالية وعدم التحيز، وكان في مستوى الثقة التي وضعها فيه العاهل المغربي؟ للأسف الجواب: “لا”.

ما الذي يدفعنا للخروج بهذا الحكم القاسي؟ من يقرأ هذا الكلام يتصور وكأن خروز قد قام بتسريب عنصر انفصالي إلى تشكيلة هذه اللجنة، لكن عندما يُعْلَم السبب سيَبْطُل العجب. وقبل أن نبين سبب هذا الحكم، نؤكد مرة أخرى أن رئيس هذه اللجنة باختياره لبعض الأعضاء قد أعطى انطلاقة منحرفة لهذه المؤسسة التي يعقد عليها الكثير من المثقفين آمالا كبيرة على مستوى القطع مع الفوضى اللغوية التي يعرفها المغرب والتي توشك، بما يصحبها من تطرف وعصبية وعنصرية، أن تُبَلْقِنَ المغرب وتحوله إلى طوائف عددها بعدد اللغات التي لا يربط بينها أي رابط ولا يجمع بينها أي مشترك وطني.

نقطة الانحراف

إن نقطة الانحراف في هذه اللجنة تكمن في اختيار بعض الأسماء التي لا يتوفر فيها شرط المصداقية والاتزان والتي لا تجسد الرأي الذي فيه مصلحة المغاربة ككل. وسوف نكتفي هنا في هذا المقال بالوقوف على آراء إحدى عضوات هذه اللجنة وهي المدعوة أمينة بن الشيخ التي تطلق على نفسها صفة “الناشطة الأمازيغية”.

ونشير بدءا إلى أننا ما كان لنا أن نناقشها لو لم تسند إليها مهمة الإسهام في صنع مستقبل المغرب اللغوي والثقافي، إذ أن أقل ما يمكن أن يقال في حق “الأفكار”، التي دأبت على إشاعتها في أحد المنابر الإعلامية التي تشرف عليها، هي أنها أفكار عنصرية مبنية على الحقد والكراهية، كما أنها ليست سوى تصريف لعقد نفسية لا علاقة لها بالناطقين بالأمازيغية الأحرار المتوازني الشخصية، بل لا علاقة لها بكل مغربي يهمه مستقبل هذا الوطن الذي نريده موحدا مستقرا. كما نريده نموذجا في السلم الاجتماعي الذي ساهمت في صنعه مختلف الدول التي تعاقبت على حكم المغرب ما يناهز ألف وأربع مائة سنة تقريبا، والذي بمثل هذه الأفكار السطحية الناتجة عن المراهقة الفكرية يتم دَكُّهُ ونَسْفُهُ نَسْفًا نسفا !!!

العَلَمُ المغربي “عَلَمُ الاستعمار”

إن أول ما يثير الانتباه فيما تكتبه هذه العضوة التي وقع عليها اختيار رئيس اللجنة، هو طعنها في العلم المغربي الذي ارتبط بالمغاربة في مختلف المحطات الحاسمة من تاريخ المغرب المعاصر. ورد في أحد مقالاتها ما يلي: “إن العلم المغربي لا يمثل الأمازيغ ولا يمثل المُعَرَّبين [كذا] لأنه من صنع الاستعمار” ع 97. إن هذا القول لا يمكن أن يصدر إلا عن شخص سطحي في تحليله للظواهر، شخص يعاني من كراهية الذات ويجهل سيميائية الرموز ودلالتها ودرجة ارتباطها أو انفصالها عن الخلفية الثقافية لهذا البلد أو ذاك.

فالعلم المغربي، وإن كان قد تم اعتماده في مرحلة الحماية، إلا أنه بحمولته الرمزية علم مغربي بامتياز، علم يعبر عن المخزون الثقافي لكل المغاربة دون استثناء، علم صنعوا به أحداثهم الكبرى وربطوا ألوانه بقيم ذات علاقة بما هو روحي وما هو ترابي territorialوما هو إقليمي… أفبعد ذلك يقال عنه إنه علم الاستعمار؟

إن أكبر دليل على مغربية هذا العلم وتأصله في الثقافة المغربية هو تقاطعه رمزيا مع الكثير من أعلام الدول العربية الأخرى في علامة النجمة الخماسية، ويكفي أن نذكر العلم السوري والتونسي والموريتاني والجزائري والليبي والعراقي، دون الحديث عن الدول الإسلامية الأخرى. وربما كان هذا التقاطع هو السبب في الترويج لهذا الرأي المتهافت الذي لا يراعي مشاعر المغاربة ولا يراعي حقائق الثقافة والتاريخ.

والهدف من وراء إشاعة هذا الرأي هو زرع الاحتقار والاستخفاف بهذا العلم لدى الناطقين بالأمازيغيات على وجه الخصوص، وتمهيد الطريق لتعويضه براية لا تمت بصلة للعمق الثقافي المغربي، وهو العلم الذي يتبناه نُزُوعِيو ومتطرفو الأمازيغية والمتمثل في أرضية ثلاثية الألوان يعلوها رمز مستلهم من شكل السحلية Lezard، وهو الحيوان المعروف الذي يُعَبَّر بواسطته عن حرف الزاي لدى الطوارق على وجه الخصوص. فالهدف، إذن، هو التشويش على علم أصيل تداوليا ورمزيا، والدفع في اتجاه التخلي عنه وفصل المغاربة عن كل الأحداث التي صنعوها بواسطته، لتعويضه بعلم بدائي الرموز عرقي الدلالة طائفي التوجه، والذي وضعه الجزائري محند أعراب بسعود مؤسس الأكاديمية البربرية سنة 1966.

اللغة العربية “استعمار”

رأينا كيف أن الرأي الصادر في حق العلم المغربي، والذي يشيعه من يسمون أنفسهم بالنشطاء الأمازيغ والأمازيغية بريئة منهم، تحكمه خلفية طائفية تروم القطع مع كل ما هو عربي بشكل مطلق، بما في ذلك اللون والرمز والرائحة… وقلة من يعلمون أنه بدعم هذا التيار سنفتح على المغرب أبواب جهنم فيما سيقبل من أيام.

وقد كان العداء للغة العربية ولثقافتها مع بعض النزوعيين المتطرفين محتشما، لكنه أصبح، من خلال تصريحات هذه العضوة التي أسند لها شرف المساهمة في صنع مستقبل المغاربة، مسفرا عن وجهه القبيح والقذر، ويظهر ذلك جليا في أقوالها التي تتبرأ فيها من كل ما له علاقة بالمكون العربي في الثقافة المغربية، والأقبح أنها تعبر عن ذلك وكأنها ناطقة باسم أمازيغيي المغرب، تقول: “نحن لا صلة لنا بالعربية إلا تلك الأسماء التي نحملها مكرهين، ولكن قلوبنا وأفكارنا وروحنا وتاريخنا وهويتنا أمازيغية”، هذه هي العنصرية في أجلى صورها، هذه هي الكراهية وقد اتخذت مظهر الانغلاق على “الذات” المريضة.

إن هذا القول، وأمثاله كثير، تعبير عن الإحساس بالرغبة في الانسلاخ من الجلد وقطع لسان المغاربة الذي تعلم اللغة العربية، إنه لعن للآباء والأمهات الذين سمونا بأسمائنا التي نحملها “مكرهين” كما يحمل سيزيف الحجر الذي أتعبه أبد الدهر، إنها عقدة أوديب وقد اتخذت مظهرا ثقافيا، بحيث تحولت اللغة العربية إلى شبه أب، وهاجس المغربي الذي هو في مقام الابن، هو قتل هذا الأب والتخلص منه ومن آثاره المتمثلة في “الاسم العربي الجريح”.

إن من يقرأ هذا الكلام يتصور أن جزءا من المغاربة كانوا يسمون أبناءهم تحت التهديد وبقوة النار والحديد، وليس بمحض اختيارهم وبفعل التصاهر والتمازج والتعدد والوحدة. إنه لا يتنكر للاسم الذي يحمله إلا من له أدلة على أن ذلك تم قسرا أو من كان اسمه يحيي فيه عقد طفولة بئيسة وماض موجع.

وهذا الموقف الحاقد من اللغة العربية وثقافتها يقودها لأن تقول عن الحرف العربي، الذي دعا نخبة من المثقفين إلى اعتماده في كتابة الأمازيغية، أنه “حرف أرامي منسوب للعربية”، وأن تقول عن اللغة العربية مرة أخرى: “اللغة العربية الفصحى لا أساس لها في واقع أرض وسماء بلادنا”، وأن تتساءل بخبث: ” هل هناك ثقافة بدون لغة حتى نستعير اللغة العربية للثقافة المغربية عوض لغة هذه الثقافة وهي الأمازيغية والدارجة المغربيتين”.

ولأن المفكر عبد الله العروي وقف في وجه إقصاء اللغة العربية من التعليم فقد أصبح، حسب قولها، من المدافعين عن مصلحة العرب المشارقة وأصبح، دائما حسب تعبيرها، مهووسا obsédé “بذلك العربي الذي سنفقد معه التواصل إذا ما استعملنا الدارجة”، أما علال الفاسي ومحمد عابد الجابري فهم من “الكائدين والماكرين والمتربصين بالأمازيغية”.

بعد الحديث عن رموز الفكر المغربي بهذا الشكل، ما الذي تبقى من الثقافة المغربية؟ لا شيء غير فكر الكراهية والإقصاء الذي يبشر به هؤلاء النزوعيون، والذين يعملون على إقناع من بيدهم القرار أنهم يحملون فكرا حداثيا متقدما، بينما هم لا يحترمون أدنى أبجديات الحداثة ولا ما بعدها.

العربي “الإرهابي”

وفي تصورها للعربي تعتمد محددات عنصرية قذرة، شبيهة بما يتبناه أعضاء جماعة kkk العنصرية الأمريكية في حق السود، ولا يوازيها في قذارتها إلا التصورات النازية والفاشية إزاء الأعراق الأخرى. ففي حديثها عن الغزوات التي قام بها المسلمون في منطقة المغرب العربي منذ ما يفوق ثلاثة عشر قرنا، والتي كانت سببا في نشر الإسلام في المنطقة المغاربية، تعمل على تحريف الأحداث واختزالها في سلسلة تهم، تجعل القارئ يعجب من جرأتها، تقول إن التاريخ “يحدثنا بسوء عن الغزوات التي قام بها العرب إلى شمال إفريقيا للاستلاء على الخيرات ونهب الثروات وسبي النساء”.

وتتحدث بعد ذلك عما تسميه بعقيدة الغزو والنهب والسبي الراسخة لدى العرب التي تعود اليوم متمثلة في “داعش”. أي درجة من الجهل يكشف عنها هذا النوع من الكتابة العنصرية؟ حضارة كاملة هي الحضارة العربية الإسلامية بما تميزت به من انفتاح وتسامح وإبداع في الأدب والفلسفة والطب والكيمياء والفلك… كل ذلك يتحول من خلال هذه الرؤية القذرة إلى نهب وسرقة لا غير.

ولمعرفة مدى التحيز الذي تمارسه يكفي أن نعلم أنه في مقابل هذا الاختزال والتزوير العنصري لألف وأربع مائة سنة من العطاء الحضاري، في مقابل ذلك فإنها تدعو إلى ضرورة الاحتفال بأكذوبة السنة الأمازيغية، وتنخرط في تمجيد الأساطير والخرافات المرتبطة بها والمتعلقة باسم شخص لا علاقة له بالمغاربة على الإطلاق هو شيشنق…. وهو من أسرة ليبية قام بغزو مصر والاندماج فيها بشكل مطلق. ففي حالة “العرب” الغزو مذموم، بينما في حالة هذه الشخصية التاريخية التي تَمَصَّرت بشكل مطلق، يلزم الاحتفال بها وغسل أدمغة المغاربة من كل ما له علاقة بالسنة الهجرية… في حالة الفاتحين “العرب” نحن إزاء متوحشين، وفي حالة غزو شيشنق لمصر نحن إزاء انتصار يستحق أن يحتفل به !!!

ولا تقف عند هذا الحد بل تنقل رؤيتها العنصرية إلى الوقت الراهن، فتتحدث بتعميم مخل عن أهل فاس، وتبين، كَذِبًا، كيف أنهم يَحْظَوْنَ بالمناصب بسبب عرقهم ونسبهم، فتخلص بعد ذلك إلى أن هذا “يؤكد أن أهل فاس ليسوا من هذا الوطن بل وافدين إليه من الشرق”. إن كل عناصر المدرسة التاريخية الاستعمارية تتركز في هذا القول. فالمغاربة، على هذا الأساس، ليسوا شعبا واحدا، وأهل فاس الذين هم تجسيد للتفاعل بين مكونات ثقافية و”عرقية” مختلفة، يُطَهَّرون من كل “الشوائب” ليسجنوا في مكون واحد.

إن مثل هذه الأقوال لا تصدر إلا عن جاهل بالتاريخ وعن جاهل بالتركيبة السوسيولوجية للحواضر بوصفها بوتقة لصهر الكثير من “الإثنيات” في البلد الواحد، كما لا يمكن أن تصدر إلا عن متشبع بالرؤية الطائفية التي يحلم الكثير من النشطاء النزوعيين العنصريين باستنباتها في المغرب، ليتحول إلى ساحة معركة واشتباك.

الأمازيغي “الجاهل”

إن “أفكار” هذه العضوة وغيرها من النشطاء النزوعيين المرضى بداء العنصرية البغيض، لا تجد لها أي تجاوب لدى عامة الناطقين بالأمازيغية، بل إن أول المتصدين لها هم من ذوي “الأصول” الأمازيغية، وذلك لمعرفتهم بخلفياتها السياسية المشبوهة وجذورها الكولونيالية الاستعمارية. ولهذا السبب ولكونهم لا يشاطرونها آراءها العنصرية هذه، ولكونهم يعتبرون اللغة العربية لغتهم التي يعتزون بها، حسب قول المختار السوسي في حق أهل إلغ، فهم بدورهم لم يسلموا من خبث لسانها.

فأغلب الأمازيغ كما تقول “تنصلوا وتنكروا لجذورهم من أجل الحصول على وظيفة”، كما أن أغلبهم حسب تعبيرها “يعاني من عقدة النقص بسبب أصله الأمازيغي”، وأغلبهم، دائما حسب قولها “يسارع للارتماء في حضن العروبة”. وفي حديثها عن “التراجعات” الحاصلة في ملف الأمازيغية، تعيد ذلك إلى كون الأمازيغ جبناء وجهلاء ومتنكرين لذواتهم… وتختم بالإشارة إلى أن ذلك إن لم يكن كذلك، فالمؤكد أن الأمازيغ يتميزون بـ “الغباء السياسي والاستكانة للذل واحتقار الذات”.

إن أي تعليق على هذا الخطاب هو مضيعة للجهد لأنه لا يستحق أن يناقش، ولأن الهدف منه هو إثارة الحمية لدى المتلقي الناطق بالأمازيغية ودفعه إلى القطع مع العربية ومع كل ما يمت إلى ثقافتها بصلة. كما أنه تعبير عن الإفلاس وعن عدم النجاح في إقناع الأمازيغ بهذه الأفكار الاستعمارية الفاشلة التي هي أشبه بالطبيخ القذر الذي يعج بالديدان اللزجة، والذي يراد للمغاربة تَجَرُّعه بالإكراه والقهر والغصب.

الحرب والسلام

تقول ديباجة ميثاق اليونيسكو: “إن الحروب تبدأ في عقول البشر، وفي عقول البشر يجب أن تُبْنَى دفاعات السلام”، واختيار إدريس خروز لمثل من يحمل هذه الأفكار العنصرية، من أجل “بناء” مستقبل المغاربة، هو إشعال للحرب في عقول المغاربة وإهانة لهم جميعا، كما أنه دعوة لهم لكي يتطرفوا ويتعصبوا ويحقدوا ويكرهوا بعضهم بعضا. كم يلزمنا أن نبني من دفاعات السلام لمواجهة هذا الخطاب العنصري ولقطع الطريق على من يريد بالمغرب سوءا.؟!

idrissy@@gmail.com

التعليقات (0)
إضافة تعليق