كتب الإعلامي الشهير فيصل القاسم بتاريخ 30 ديسمبر 2017 مقالا بعنوان “متى يتعلمُ الحكّامُ العربَ اللغة العربية” يقول فيه :
“قلّما تجد حاكما عربيا متمكنا من لغة الضاد، أو محترما لها، أو آبِها بها، إلا من رحم ربي، فمعظمهم من قبيلة “المفعولنبوهو، فهذا يرفع المجرور، وذاك ينصِب المكسور، وغيرُه يجرّ المفعول، وآخرُ يكسر الفاعل، وذاك يضمّ الماضي، بعضهم يفتح المضارع ..وكأن هناك مخططا عربيا رسميا لتكسير اللغة العربية، والنصب عليها”.
ويضيف :
“متى توقنون يا حكامنا الأعزاء أن هيبتكم من هيبة لغتكم ؟ متى تعرفون أن “اللغة المكسرة” التي أدمنتم على معاقرتها تسيء إلى مقاماتكم (الأصح مقامكم). ألا يقولون (أو على الأصح يقال) إن اللغة وعاء الفكر، فأين الفكر إذا كان وعاؤه عندكم لغةً معطوبةَ نحوا وإلقاء ؟ كيف يستطيع البعض أن يستوعب الاستراتيجيا الكبرى وتشعبات السياسية والاقتصاد إذا كان لا يقدر على استيعاب أحرف الجر والنصب والجزم. (,,) لماذا يتكلم بعضكم اللغة الإنجليزية أو الفرنسية ببراعة متناهية أحيانا دون أن يلحن بكلمة واحدة بينما يلحن عندما ينتقل للتكلم بلغة الضاد.”
ثم يختم :
“ألا تعلمون أيها السادة أن تشجيعَ اللهجات المحلية في وسائل إعلامكم العربية المسموعة والمرئية في الآونة الأخيرة مقدمةٌتمهيدية ل “سايكس بيكو” الجديدة التي تريد تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ..”
( انتهى الاقتباس)
يُلخص هذا التقييم جزءا من واقع اللغة العربية، ليس لكونها من دون رعاية فقط، وأن من يُفترض أن يمثلها لا يفعل، ولكن لأن من يدافع عنها أو يزعم الدفاع عنهالا يزيد على الحد الأدنى منها، بل قد يشينها بالأخطاء واللحن، ولعل هذا الواقع يصرف إلى حُكم ممض ذلك الذي نطق به لويس ماسينون “العرب لا يستحقون لغتهم”.
وضع اللغة العربية
والواقع أننا حين نتحدث عن اللغة، أيِّ لغة،فلا يمكن أن نفصلها عن الناطقين بها، أوالمستعملين لها، فهي لا توجد بذاتها، بل من خلال حامليها. اللغة وعاء، وليس يكفي أن نُخرج حجة قواميس اللغة العربية وغناها وثراء التراث،لندحض دعوى النافسين لها، الناقمين منها، المتربصين بها، ذلك أن الواقع أصدق أنباء من القواميس ومن التراث. بل إنماضي اللغة نفسه، وتراث حضارة، على غناه، قد يُضحي كَلاّ، إن لم يُنفَض عنه الغبار،ولم يُخضعه بنوه لتمارين الرشاقة، ولم يقم بالحِمْية، ولم يتخلص من الزوائد، ولم يُجر عمليات التجميل والغرس، ولم يقتحم الحياة ولم يعرفه الناس، فيجالسونه، ويسائلونه بل ويخاصمونه، ويزيحون عنه القدسية، وقد يجفونه، ثم يتصالحون معه. فقد يؤود الماضي لغةما إن لم يُحوّلها أصحابها كما تُحوَّل عملة قديمة إلى عملة رائجة، وإن لم يتضمن الوعاء القديمُ الحديثَ ومفاهيمه ورؤاه.
واللغة العربية تعيش ككل اللغات وضعا يُثقل فيهالماضي عليها بكلكله، ويناوشها الحاضر بشغبه، ويستفزها المستقبل بتحديه. فاللعة، أية لغة، لا تُختزل في وظيفة التواصل، نعم هي تواصل بين المعاصرين، ولكنها تواصل مع ماضي، هو مستودع لروح أمة وحضارتها وثقافتها، وهي جسرلمستقبل،اللغةقاطرتهوالحاملة لآماله، ولذلك لا تَسلم اللغة، أي لغة، من وظيفة قسرية هي ضمان التواصل في الزمان والمكان، إبقاء للذاكرة وقبسا للآمال وشحذا للهمم. وقد تجافي تلك الوظيفة تطور الحاضر، وقد تتنافى ومنطق الأشاء، وآية ذلك أننا في الإنجليزيةنكتب حروفا لا تُنطق، وننطق بحروف لا تُكتب، هي مخلفات لماض توارى ولمّا يمحِ رسمه. وقل ذات الشيء عن الفرنسية وما قد يكتنف الإملاء وصعوبته لما يحمله من مخلفات نطق توارى، أو جذور اشتقاق، ووقوف سدنة للغة، شداد غلاظ،سدا منيعا صارما ضد الحديث والمستحدث، بل ضد منطق الأشياء.
وتعيش اللغة العربية ضغط حاضر متطور مركب، فلو نظرنا نَظرة يكون المقياس هو الكم، لاعتبرنا أنها تعيش أزهى عصورها، فعدد المتحدثين بها يربو على كل ما عرفته عبر السنين والأجيال والقرون، وهي قد اقتحمت ميادينغير مسبوقة، وبخاصة في الإعلام، ولْننظرْ إلى القنوات التلفزية الدولية، ومنها الجزيرة، ومنها العربية، ومنها ب بس، ومنها فرانس 24، ومنها ن ب س، والحرة، وسكاي نوز، وروسيا اليوم وهلم جرا. وقد أزاحت تلك القنوات الفياصل، وطوّعت اللغة، وانتهت إلى لغة ثالثة هي عوان ما بين الفصحى وما بين مختلف الدارجات.ومثلما كتبت مجلة دوإيكونوميست قبل عشر سنوات ونيف، فما قامت به القنوات التلفزية لم تقم به مجامع اللغة العربية. كسَرالتلفزيون الحواجز وروّضها، ونهضت لغة وسيطةتجعل المغربي يفهم المشرقي في يُسرفي هذه اللغة الثالثة أو الوسطى أو الوسيطة.
إلا أن ما اكتسبته اللغة العربية من حيث عددُ الناطقين، فقدته من حيث نوعيةُ اللغة وسلامتُها ودقتُّها. فهل ننظر إلى الأمر بصفته انحدارا وانزلاقا وميوعة، أم هو سُنّة التطور، وظاهرة طبيعية، بَلْه صحية ؟ وهل يمكن أن يُتركهذه التطور، على ما يشوبه من فوضى،من غير ضبط، وأن يُرخى العنان لأصحابه، و يُترك الحبل على غاربه، أم تَلزم سلطة تسهر على حسن تطور اللغة وتطوريها، تجاري مقتضى الحال، ولا تجافي عبقرية اللغة ؟وأي سلطة ستضطلع بالأمر، ومن أي مستوى، هل من الإعلام، أم في المدرسة، أمفي دور النشر، أو في المجامع، أم جميعها، وأي علاقة تقوم بينها ؟ وما مواصفات القيّمين علي السلطة اللغوية، هل معرفة اللغة كافية، أم تتوجب سيوسيولوجيا اللغة والفيلولوجيا، أم أننا قد نفتح أبوابا واسعة من ذوي الاختصاص في شتى الميادين، ونقيم أوجها للتعاون،وهل سيُوّفق أصحابهافي الأمر،يجارون التطور السريع من نحت المصطلح، وتبسيط قواعد النحو، مع الحفاظ على روحاللغة. وما حدود التطور، فهل يؤول إلى زعزعة بنية اللغة، من صرف ونحو، وهل يذهب حدّ الرسم، وهل ستحظى السلطة الموكول لها بمسايرة التطور والسهر على الارتقاء باللغة العربية بسلطة معنوية، يأتمر بها الجميع، أم هي مجامع تجتمع حين تجتمع وتُفتي بما لا يَنفذ في مضاربالحياة و ما لا ينفع الناس ؟
ويمكن أن نختزل مشكل اللغة العربية في هذا الذي ألمعت له. بيد أنه لا يمكن تجاوز الوضع من دون إرادة سياسية، والإرادة السياسة لا تتم من دون رغبة، ومن دون وعي بخطورة الأمر، ولعل ذلك ما ألمع إليه صاحب الصرخة ضد جمهرة المفعولون بوهو.
نتفق أن مشاكل اللغة العربية ليس مقترنة بها،أو لصيقة، بل هي في عجز الناطقين بها عن رفع التحديات التي تطرحها الحياة العصرية، وللضغط الذي تمارسه مختلف تعابير اللهجات التي هي لغة الحياة كما يقال، وفي هيمنة اللغات العالمية، لغات العلم والتكنولجيا والاقتصاد والحداثة. فكيف أن أستعمل اللغة العربية كي أعبر عما يكتنف حياتي من أمور الحياة، بل حتى إذ أنتقل إلى المكتوب وأسعى أن أجد مقابلا بالعربية لما يَعرض لي من أمر من أمور الحياة الحديثة، فلست أسلم من تَمحُّل ولا آمن من تعسف. تقع اللغةالعربية تحت تحدي اللغات الغربية، في الحياة الخاصة والعامة، وبخاصة الإنجليزية والفرنسية وإلى حد ما الاسبانية، وهي لغات تفتح منادح الانغمار في العالم، والأخذ بأسباب التحديث، أو على الأقل مظاهره، وتتيح مجالا أوسع للتواصل، ومن ثمة للاعتراف، وهي أدوات تفتح سوانح الانغمار في ميدان الشغل، أو هي لغات الخبز كما يقال، وكيف أُلزم واحدا أن يتعلم العربية، أو يتعلم بها، إن لم تفتح له اللغة العربيةمنادح العمل فضلا عن أسباب الارتقاء الاجتماعي ؟ فللعوامل الذاتية حدود أمام مصالح الأشخاصوأرزاقهم وأوضاعهم. وصاحب الحاجة أعمى كما يقال، فكيف نُبصّر به، وقد أثقل عليه الضر وناء به الكَلّ وسُدت في وجهه الأسباب وأوصدت دونه الأبواب.
تلك أوضاع موضوعية تُلقي بجرانها على اللغة العربية، وهي ما يفضي بالبعض إلى الدفعبتبني مختلف الدارجات، لأنها لغة الحياة، مثلما يقال، وهم يستدلون بما عرفته أوربا، وكيف تطورت لهجاتها من لغات منصرفة للوجدان، كي تتطور رويدا رويدا إلى لغة الفكر فالعلم، وليس يمنع أن تتطور الدارجات كما تطورت اللغات الأوربية، ونحن نقرأ كثيرا من هذا القول، ويلتقي في ذلك العابثون مَن تنضح ضحالتهم المعرفية، والجادّون مَن هم على بسْطة من علم ومعرفة، وقد تختلف وسائلهم، بل مرجعياتهم، ويلتقون في انقباض من اللغة العربية، والنقمة منها. وقد يشفع المتعلمون، مع دثار علمي يتلفعون به، من أنها لغة طقوس، وأنه يلزمك أن تفهم كي تقرأ، وحال اللغات كلها أنك تقرأ لتفهم، هذا فضلا عن عدم ضبط اللغة العربية بالشكل وصعوبة قواعدها، وعدم احترام تلك القواعد من لدن ذويها، علاوة علىداء الخطابية، أي استعمال كلمات وتعابير دون الوقوق على معناها. وقد يزيدون مما كان يُروّجه بعض المستشرقين، من أنها لغة دينية، تبدأ من الدين وتنتهي إليه، ولا يمنع أن تنجرف مع الخطاب الديني فتحملَ طميتحجره بل ظلاميته. ولذلك، والظرف موات، الجهر بما كان يتم التستر عليه، و الإجهازُعليها، لأنه لغة ميتة، أو في حكم الميتة.
وآخرون، قد أعفتهم أوضاعهم المجتمعية من تعلمها، فحذقوا اللغات الغربية التي فتحت لهم منادح المعرفة العصرية وأساب الارتقاء الاجتماعي، فهزؤوا من اللغة العربية وبأصحابها وجاهروا بذلك لفترة، ثم آل بهم الأمر، وقد أصبح للبنية التقنقراطية يد وصَوْلة في تدبير الشأن العام، أن دُفعوا وقد تسنموا ذُرى السلطة وأمسكوا بأعنّتها، لاستعمالها والحديث بها في مؤسسات رسمية أو إعلام عمومي، فتصبح تلك التلاوة عذابا عليهم وعلى من يستمع إليهم، ولا تزيد تلك التمارين في الغالب عن ترجمة ركيكة، إنْ من اللغة الإنجليزية أو الفرنسية. ويلتقى هؤلاء فيالانقباض من اللغة العربية مع خصومها المعلنين ويدفعون بأولئك إلى الجهر بما لا يستطيعون، لاعتبارات سياسية. وقد يشفع الوضع الدولي، والقولبة الفكرية التي تسعى لها بعض من مراكز الفكر الغربيةوالصهيونية،وبعض الأفكار الجاهزة من قبيل أن التعريب من شرايين التطرف، وأن اللغة العربية تحمل فكرا متطرفا، فكأنها هي قنوات صرف صدئة ينتقل صدؤها لما تمرره، فلا يرى خصومها إذاك ضيرا من المجاهرة بمعاداتها، والدفعبالدارجة.
والواقع أن اللغة ليست شأنا موضوعيايمكن أن نتقارع فيه بالحجج. فهل نستطيع أن نقنع فرنسيا بالتخلي عن لغته لإن الإنجليزيةأوسع مدى، وهل يستمع لنا البرتغالي لو دفعنا بالإسبانية عوضا عن لغته، وقل ذات الشيء عن البوليني لفائدة الروسية أو الألمانية، بل قل ذات الشيء عن لغات محدودة.
نحن في مجال تطفح فيه الذاتية وقد تشطح. والذاتية ذاتيتان، ذاتية إيجابية تنبني على الحب وتَعلقبما يرتبط بالوجدان، وهو أمر مقبول بل محمود، و أخرى سلبية تنبي على التعصب والعمى حتى لتصرف عن النظرة الموضوعية، ويؤول الأمر إلى نوع من الإسقاط النفسي، إلى رفض للآخر ومعاداته، والسقوط في استغشاء الثياب أو الإنطوائية كيلا يُنظر للواقع، مما يفاقم من الوضع.
ونتفق إذن أن ليس هناك قبيل يرضى أن يُضحي بلغته، رغم ما قد يشبوها من قصور وما يعتريها من عجز.
ونحن رغم ذلك نحتاج إلى الموضوعية جهد الإمكان، حتى في القضايا التي هي موطن الذاتيات، ومنها وضع اللغات.ونحن نحتاج إلى قدر من الذاتية الإيجابية دون أن يشطح بنا الأمر إلى التعصب والعمى والصدَف عن الواقع، ورفض الآخر.
وأول ما يَعِن حين دراسة وضع اللغة العربية هو المقارنات التي تُعقد ما بين وضع اللغة العربية واللاتينية في العصور الوسطي، وهي مقارنة واهية. يدلل من يريد أن يجهز على اللغة العربية بسابقة أوربا، وكيف أن أوربا انسلخت من هيمنة اللاتينية، وأقرّت لغاتها القومية. والواقع أن اللغة العربية منذ العصر العباسي لم تعد لغة قومية. لم تعد لغة العرب وحدهم، ولم تُزر بمختلف التعابير السائدة آنئذ. أضحت لغة حضارية، كتب بها العربي وغير العربي، والمؤمن والمأدري، وأضحت في أحايين أكثر قوة من آصرة الدين، وآية ذلك أن ساكنة بغداد، في عهدها الذهبي كانت تقدر بألف ألف، أي مليون، وكان عُشُر هذا العدد لا غيرمن يدين بالإسلام. وقل ذات الشيء عن الأندلس، حيث تفرقت الملل والنحل، وتوحدت لغة الكتابة ولغة التواصل. تعايشت اللغة العربية إذن مع أساليب التعبير المختلفة من عاميات، كما كان يطلق عليها، ولغات قومية، من فارسية وتركمانية وأمازيغية، ورومانية. وأقرب الأشياء في حكم المقارنة، حين الحديث عن العربية هو وضع الصينية أو لغة الماندران، لغة العلماء التي لا تزري بلغة العوام، والجامعة لشتات، والمؤتمنة على ذاكرة، والحاملة لأمل.
وقد يُرد أن المقارنة تنصرف يوم كانت الحضارة الإسلامية في مجدها وكانت اللغة العربية لغتها، ولو هي لم تزر باللغات الأخرى التي اغتنت منها، فكيف إذن نستمسك باللغة العربية والحضارة الإسلامية قد أصابها الوهن، ثم إن اللغة العربية انسلخت عن قوميات أو انسلخت تلك القوميات عنها، وشقت هي طريقها، وأصبحت لغاتها القومية لغات العلم والتكنولوجيا، كما الفارسية والتركية ؟ والعربية لغة العرب، وهم أحرار أن يصنعوا بها ما يشاؤون، أو تصنع هي بهم ما تشاء، ولأن وضعهم هو على ما هو عليه، فهو ينعكس على اللغة، وآية ذلك ما ألمع له الإعلامي فيصل القاسم من أن الحاكمين بأمر الله على شؤون شعوب العالم العربي لا يحسنونها، والمثقفون موزعون بين لغة تراثية، ولكنها منفصلة عن العصر، وآخرون مرتبطون بالعصر، وحاملون للغة من غير نسغ. بل قد يذهب الأمر، إلى القول إن مشكل العرب هو لغتهم، ولو تخلصوا منها لحسُن حالهم. ويزيد الأمر حدة، حين ننتقل لبلاد المغرب، فأغلبها قد تعرب، فكيف نستمسك بالعربية إذن، ولو أخذنا بمقتضى ما يفرضه منطق الحال، فواقعها يزري بها، ولو أخذنا بالذاتية، فهي ليست لنا بلسان، وإنما تعرب منا من تعرب، وحافظ على لسانه الأمازيغي من حافظ. ولا بأس أن تصبح لغة دينية، تُؤدى بها الصلاة، وتقام بها الجمعة، وتتلى بها الأدعية، ولا ضير أن نتعايش، والحالة هذه، مع سيكوزفرنية، تُمارس بالعربية بعض الطقوس، ويُعهد لقضايا التدبير والتسيير والمال والاقتصاد لمن يحسنون اللغات الغربية، ويتوزع المجتمع والحالة هذه، بين نخبة مُقْرنة والعصر، تعرف لغته وأساليبه، ورعاعٍ سادرين في الأحلام والأوهام، يساسون بمزيد من الأوهام، وإن تعذر الأمر، فبالسياط. وضع مثل هذا لا يفضي لشيء، فهو مثبط للعزائم، موهن للقرائح، محط بالكرامة، يقوم على الكذب والاحتيال والكلبية والبطش. ولذلك فوضع اللغة، يسعفنا، كمؤشر كي نغور في أسباب الاختلال، أو الأزمة الثقافية، مثلما سماه بعض المُنظرين، لأن القيم الناظمة، في ظل الاختلال اللساني والقيمي، لا تتيح نهضةـ ولا تسعف في هَبّة، وإن اعترتها عجعجة، واكتنفتها شقشقة، ولذلك قال من ناهض الأنظمة الشمولية، جورج أرويل من أن الكفاح من أجل لغة إنجليزية سليمة ليس كفاحا اعتباطيا، وهو الذي فصّل القول في 1984 في أن أنجع أداة في التحكم في رقاب الشعوب، هي لغة من غير نسغ، تفيدالكلمة الشيء ونقيضه، وتنسلخ عن الذاكرة، أو تعبث بها حسب الأهواء.
والواقع أن اللغة العربية، حملت منذ النهضة أملا، لبني جلدتها، أو للشعوب التي تبنتها، وآية ذلك أن بعضا ممن يصدرون من قوميات مختلفة، بل من إيدولوجيات مناوئة للعربية، وللعروبة، يحسنونها، وينافحون بها، ذلك أنها حملت سرهم أو روحهم، ولعل تلك الآصرة بالنسبة لبلاد المغرب أن تكون موغلة في القِدم، وتتجاوز الأربعة عشر قرنا، كما ذهب إلى ذلك المؤرخ ستيفان كزيل، وتعود إلى الفنيقيين، إي إلى أكثر من ثلاث ألف سنة، وهو الأمر الذي لم يعزب عن عبد الله إبراهيم الذي قال قولا يحتفظ براهينيته.
“وللعربية جذور عميقة في وجدان المغاربة الديني وضميرهم الأخلاقي وارتباطاتهم العاطفية عبر التاريخ، فهي لذلك تمثل أكثر من لغة لديهم”. (صمود وسط الإعصار)
بيد أن وضع اللغة العربية، وواقع العالم العربي، يغري خصومها بالإجهاز عليها.
دعاوى خصوم اللغة العربية
خصوم اللغة العربية أطياف عدة، وهم يأتون من مشارب مختلفة، وغالبا ما يرتبط العداء للغة العربية بمرجعيةأيديولوجية مناوئةلإيديولوجيات أخرى، ومنهاالقومية العربية، أو الحركة الإسلامية، بَلْه الإسلام، أو لأوضاع، ومنها للأنظمة القائمة، أي أن الموقف من اللغة العربية هو شماعة للتعبير عن تلك الاتجاهات. وتلتقي في ذلك قومياتٌ غير عربية من داخل العالم العربي، أو أقلياتٌ دينية، أو اتجاهاتٌ علمانية، أو تقنقراطيون، أو أوليغراشيات نافذة لم يَنْطع لسانها بالعربية، أو عناصر تحن للعهود الاستعمارية و أدوات للاستعمار الجديد من فرانكوفونية وتقنقراسية (أي حكم التقنقراط)، في بلاد المغارب أو في لبنان، أو معارضون لأنظمة حاكمة وقد يكونون من مخلفات الشيوعية. ومن الصعب إجراء مسح دقيق أو تطابق ما بين هذه الروافد والعداء للغة العربية، فليس كل كردي مناويء بالضرورة للغة العربية، ولا كل قبطي يناصبها العداء، ولا كل اتجاه أمازيغي يريد أن يجهز عليها، ولا كل من يحمل رواسب شيوعية أو اتجاه ماركسي يريد أن يُفجرها، بيد أنه خصومها يأتون من هاته الروافد.
وبقدر ما تختلف تلك العناصر من حيث مرجعياتُها، بقدر ما تختلف في علاقاتها من اللغة العربية، فمنهم ما يجهلها جهلا، وتَحل مواقفه المسبقة أو أيديولوجية يؤمن بها عِوضا عن المعرفة، ومنهم من له بها معرفة وظيفية، ويحمل عسر تعلمها ذريعة للتحامل عليها، وقد يكون انتقل إليها انطلاقا من لغة غربية، الإنجليزية أو الفرنسية في الغالب، ومنهم فئة شفيفة، في طور الانقراض، تتقنها وتعرف مواطن قوتها ومكامن ضعفها، كان منهم بعض من المارونيين والكلدانيين والكرملنيين والأرمن والأقباط وثلة من الأمازيغالعلمانيين، ولأنها لا ترتبط برباط ذاتي في وجدان هؤلاء أو يريدون أن ينسلخواعمّا ترمز إليه، إما من قومية عربية، أو حركة إسلامية، أو ثقافات متكلسة،أو أنظمة متحجرة، فهميلقون بها، ويُبينون عن عيوبها، أو يرتبطون بروابط ذاتية أخرى، من قوميات غير عربية، أو علمانيات متطرفة، فيجعلون العربية غرضا لنصالهم.
ولايعدم خصوم اللغة العربية من حجج، ومنها وضعها الذي يجعلها لغة منمطة. ليست لغة الحياة، فلا أحد يتحدث بها في الواقع. هي لغة المكتوب، ولغة الرسميات ولغة خطب الجمعة، فهي لغة دينية، ولغة المرثيات والتأبين ولذلك يَقرنونها باللاتينية، تصلح للبكاء والرثاءلا للحياة ومباهجها. الفصحى لغة التراجيديا، لغة الجنائز،لغة الأطلال، لغة البيانات، والوعيد والثبور، والحنين، والتقاليد الموغلة في القدم، من ديوانيات وصلات، ومدح وتزلف ورضوخ، أما الدارجة فهي لغة الحياة، لغة الكوميديا، لغة البهجة، والنكتة، والذكاء الفطري، والتمرد، والإبداع الحي. لغة السنيما، و الموسيقى، و الحب.
ومن أدوائها، يضيفون، عدم دقتها، أو إغراقها في المرادفات، و يشفعونباللفظية أي أن الأشخاص يتلون كلاما وتعابير ولا يدرون معناها. ويزيدون، وهم يقتنصون أخطاء دعاتها، أنهم لا يحسنونها، أو أنهم يدافعون عنها بأفواههم لا بقلوبهم، إذ لا يتورعون من إيفاد أبنائهم إلى البعثات الأجنبية. ويتربص خصومها بمن يجعلها خطابا أيديولوجيا، أو أصلا تجاريا، حين يخطئون، في قواعد اللغة، من صرف ونحو، أو لما يصدر عنهم منضحالة معجم بها وضعف ثقافة .
ومن يُردْ حجة فلن يعدمها، كما يقول جوته في رائعته فوست، أو كما يقول الشاعر :
عين الرضى عن كل عيب كليلة وعين السخط تبدي المساويا
أنصارالعربية
أمام هذا الوضع لا يجد أنصار اللغة العربية، رغم عددهم، ورغم القوة المحتملة للغة العربية، ورغم حمولتها التاريخية والرمزية، قوة في مستوى التحديات التي تواجهها والتطلعات التي تسكن دعاتها. هم أطياف عدة، يلتقون في ارتباطهم باللغة العربية، وقد يختلفون فيما عدا ذلك. منهم من هي لديه لغة قومية، لا تنفصل عن جنس وعرق وأرومة، ومنهم من تقترنلديةببعث ومن ثمة بإيديولوجيا، تختزن تراثا وطموحا، وهيانطلاقا من هذا الوعي،أسمى من عرق ولا تُختزل في جنس. ..ومنها الاتجاهات الدينية، فهي لها لغة القرآن، ولغة الصلاة، بل ولسان أهل الجنة، هي إذن لغة شريفة مميزة، ولو أن الإسلام رسالة للعالمين، فللغة العربية وضع مميز في دائرة الإسلام. ومنهم، من يراها لغة حضارة بها يغشى جزءا من ذاكرته، دون أن تزري بلغته القومية، ويرى، ولو في شيء من العَنت، أنه يسوغ أن يُوفق ما بين لغته الحضارية، ولغته القومية، وهو يتعرض من أجل ذلك لوابل من القذائف، من أنصار اللغة العربية، ممن ينظرون إليه في شيء من الريبة،فيعيبون عليه ارتباطه بلغته القومية، ويرونتعلقه بالعربية إذن مجروحا، ولسان حالهم يقول، إن لم يخطئوا الاستشهاد، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. وهو إلى هذا عرضة لجفاء بنيجلدته،يَعدّون دفاعه عن العربية نكوصا عن لغته القومية، بل خيانة، فكيف يجمع الأمرين، ويلم الشتيتين، وكأنهما نجماسُهيل والثريا لا يلتقيان قط. وطبيعة الحياة أنها متداخلة غنية،أغنى من القوالب التي تسكن من سكنتهم الإيديولوجية والنظرة المنمطة والأفكار المسبقة.
ويكتسي الأمر حدة، في بلد مثل بلادنا، ينتقل من طور لطور، أو من الغضارة (ولست أقول المراهقة) إلى الرشد، حيث تتحفز الأهواء وتوتر، وتتقاطب الرؤى، وتتأرجح ما بين ثنائية الأبيض والأسود، ومانوية الخير والشر، وينعدم التمييز أو يَقل، وتنتفي إدراك الفروق (أو الشِّيات)، وحيث صخبُ الإعلام وما يحمله من سجال ينوب عن الحوار المتأني الهاديء، وحيث أطراف خارجية تتحرك وتحرك الأدواتِ وترسم التصورات ِ، من وراء حجاب، فتضخم ما تريد أن تضخمه ومن تريد ، وتزري بما لا يطابق تصوراتها أو قُل أجندتها.
يحسب كل واحد، في برج بابل هذا، وقد اختلط الحابل بالنابل، والغث والسمين، والصحيح والزائف، ممن يصدر من ايديولوجيات متضاربة، وينطلقون من مرجعيات مختلفة،بوعي منه أو وغير وعي، أنه حامل للحقيقة. وقد يكون حاملا لجزء منها، ولكن مآل الأمور ليس بيده، وإنما بيد التاريخ، نستعجله أو نريد أن نقتضيَه ما يعود إليه، وليس إلى حكم المتنابزين، الصاخبين منهم أو من يصدرون عن روية وقصد وأناة.
ولكن التاريخ لا يُعفى الإنسان من العمل. من نقطة انطلاق، هي رصد لواقع، ونقطة وصول، هي تَشوُّف لأمل. لا يمكن أن نذهل عن واقع الأمر. فلقد توارت القوى الداعمة للغة العربيةأو ضعفت. فالسلطات السياسية لا تعير للأمر أهمية، وهي تشعر بالحرج لأنها ذاتها لا تحسن اللغة العربية، ولو هي قد تبني شرعيتها على أصولعربية وذؤابتها العليا منها، و على مرجعية الإسلام، ولا هي تنتصب مثالا يُحتذى في المعرفة عموما، وفي المعرفة باللغة العربية خصوصا، بل يُعيى بها الإلقاء. ولم تعد المؤسسات الدينية من أزهر ونجف وزيتونة وقرويين حاضنةلحرمتها، غلبتها أمور السياسة وتغلبت عليها و انزوت تلك المؤسسات في أروقة ضيقة، وأصبحت أدوات بيد الحكام ضد اتجاهات سياسية تمتح من الإسلام أو توظفه. بل إنك لن تعدم أن تجد واحدا من العلماء يلحن وهو يلقي درسا بها في المسجد أو التلفزيون أو دروس رمضان، وقد كان يسوغ كل شيء لدى خريجي تلك المؤسسات، سوى أن يلحنوا.
وتأذّت اللغة العربية من مخلفات خطاب القومية العربية، وقد تبنت ماركسية طفيلية أو هجينة، أجهزت أو كانت تريد أن تجهز على التقاليد والعتيق، دون أن تقدم بديلا، ولم يكن النجاح حليفها، فلم يشفع لها بوارها. ويمكن أن نقارن ها هنا ما بين جمال عبد الناصر، وبن غوريون واختلاف علاقتهما بالتراث.روى حسنين هيكل أنه استشهد مرة بالبيت الشهير :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غَوَيْت، وإن ترشدْ غزيّة أرشد
فما كان جواب جمال إلا أن قال : دعني من الشعر والفلسفة (سبني من الشعر والفلسفة).
أما بن غوريون فقال قولته التي ذهبت مذهب الأمثال، ُصنّا الكتاب، فصاننا.
لم تجد اللغة العربية حاضنا منحكام العالم العربي. أغلبهم يعتبرونها إصرا ويرون فيها غِلا دون أن يستطيعوا أن يجهروا بذلك، مما ينضح عنهلسان حالهم. ولقد سمعت حاكما عربي الأرومة، من مرجعية دينية يتلو آية فيَشينها نحوا ونطقا، وسمعت الأمين العام لجامعة الدول العربية يقول في خطاب مكتوب ببغداد : أضحت بغداد قُبلة الثقافة العربية.
وليس هناك مؤسسات تشتغل من أجل تطوريها والارتقاء بها، من مجامع أضحت هياكل بلا روح، وإن وجدت لم يقم تنسيق فيما بينها.
وأما الترجمة، فهي فوضى عارمة يحددها السوق، فلا هي لا تلتزم دقة المصطلح، ولا تحافظ على رونق اللغة، وليس هناك هيئات تنسيق بين البلدان، ولو أن لمصر هيأة للترجمة كان يمكن أن تكون أداة تلتقي حولها الجهود فتكون منهاروافع. اكتفت بذاتها، وتعيش، رغم ما تبذله من جهد، في واد، والواقع المعيش في واد.
وأما المدافعون عنها، فمنهم من يحسب الحَميّة وحدها تغنيه عن المعرفة، أو التحامل ضد الآخر أو التنابز معه، بنعته بأقذع النعوت والنيل منه، عوضا عن العمل. نعم، لا يمكن الدفاع عن العربية من دون حبها، إلا أن هذا العنصر على أهميته لا يكفي، لا بد من معرفة لها وإتقان، لأن الذي لا يحسنها أو يشين لقواعدها يقع غرضالخصومها. ليس يكفي السجال. السجال مفيد في السياسة من أجل فتِّ الخصم أو من أجلالدعاية، لا في القضايا الاستراتيجية. لا يفيد التخوين والتحامل، وإن كان من الضروري معرفة الخصوم معرفة موضوعية وتفكيك حججهم بأناة ودقة وعلم. وليس يُحسم النقاش حول هذه القضايا بالحوار وحده، على أهميته، ذلك أن من يَصدر من رؤية إيديولوجية لا يعدو الحوار معه أن يكون لغطا أو مونولوغ ثنائي لا يفيد في شيء. لا خصوم العربية ولا أنصارها يملكون مفاتيح الغيب. قد ينطلقون من الحاضر، فيجدون من الأسباب مايُسوّغ دعواهم، وقد يوظفون الماضي ليناصروااتجاها أو يدحضوا تصورا، ولكنهم لا يملكون المستقبل،وعليهم أن يسلكوا سبيل القصد في الحكم، والروية في الأحكام والتواضع في السلوك والنأي عن التنطع. قد يسعون أن يكونوا أدوات في يد التاريخ، وليسوا هم التاريخ، والحُكم للتاريخ.
إن على المدافعين على اللغة العربية الخروج عن القوالب القائمة، أو من البارديمغات السارية. وأول الأشياء هو تحديد طبيعة اللغة العربية، فهي لغة حضارة، قبل أن تكون لغة قومية، فهي ليست لغة العرب وحدهم، كما أن الإنجليزية لم تعد لغة الإنجليز وحدهم، ولا الإسبانية لغة الإسبان دون سواهم، وكما أن الروسية لم تعدد لغة الروس فقط.
ومن حق القوميات الأخرى التي تعايشت في حضن الحضارة الإسلامية أن تحافظ على لغاتها، وأن يتعايش الارتباط ما بين اللغة القومية واللغة الحضارية. وليس من الرأي في شيء الدعوة إلى إماتة اللهجات.
ورُبّ قائل يقول إن اللغة العربية لم تعد لغة الحضارة الكونية، ولا جدال في الأمر، ولكني لا أستطيع أن أتخلى عنها لأنها مؤتمنة على جزء كبير من ذاكرتي، مثلما أني أعي أنه يتوجب علي معرفة اللغات الكونية التي تفتح لي آفاق العالم، وتفيد في الارتقاء باللغة العربية ذاتها. ومن الخَطَل في الرأي أن أعتقد أنها مكتفية لذاتها، وبخاصة في العلوم.وهو ما يحتم تحديد وظائف كل لغة، في الحيز الذي تتعايش فيه، كما في المغرب. ومتى استطعت أن أحدد تلك الوظائف، وأوعيتها اللسانية، استطاعت اللغة العربية أن تغتني منها، وأضحت روافد لها، كما أن اللغة العربية متى ما انفتحت عليها أغنتها، كما فعلت سابقا مع الفارسية والتركية والأمازيغية والكردية والسواحلية .وقد نأتم مما فصّل ت س إليوت، في كتابه “مذكرات لتحديد الثقافة”Notes towarddefinition of cultureحول العلاقة بين الإنجليزية واللغات المتحلقة حولها. ولا غرو أن يكون جهابذة اللغة الإنجليزية إيرلنديين، أمثال إليوت، وجيمس جويس، وبرنادرشو، وييس.
ما قد نتنابز بشأنه اليوم، ليس حله بأيدنا بل بيد التاريخ، بيد أن التاريخ يصاغ.
التاريخ يصاغ
لا ينبغي للمدافعين عن العربية أن يتأذوا مما يفرضه خطاب الخصوم من تحدي، عليهم أن ينظروا إلى الجوانب الموضوعية منه،وعليهم أن يجعلوا منه حافزا لهم وباعثا لها.
لقد مرت اللغة العربية من وضعين استطاعت من خلالهما، أن تُبين على قوة فائقة على التطور. انتقلت في أقل من قرنين في فترة كانت عجلة التاريخ تتحرك وئيدة، من لغة قبَلية إلى لغة دين، فلغة قومية،فلغة حضارة، واستوعبت في يسر تراث بيزنطة والساسانيين، وعلوم الهند وفلسفة اليونان، وفعلت ذات الشيء في بلاد المغرب والأندلس، وأضحت لغة العلم والفلسفة فضلا عن الآداب، ولم تتأذ من الانفتاح، وعمدت للترجمة، ونقل المصطلح في لغته بلا عقد، ولم يمنعها تراثها الديني أن ترتبط بفلسفة اليونان، بل أعطته دفقا، وأضحت اللغة العربية إحدى أدواته، ولْيقرأْ منا من يريد أومن يستطيع رسائل التربيع والتدوير للجاحظ، وصلتها الوثيقة بتراث اليونان، أو تهذيب الأخلاق لابن مسكويه وآصرتها بالمدينة الفاضلة لأفلاطون، وكتاب كليلة ودمنة والأدب الكبير والأدب الصغير، هو موعظةفي الآداب السلطانية من فارس والهند بلغة رشيقة لا تجافي عبقرية اللغة العربية. كانت لغة الفلسفة ولغة العلم، كتب بها الكندي والفارابي وابن باجة، وابن رشد. وكانت لغة الخوارزمي وابن زهر وابن النفيس وابن سينا، وابن البنا. ولنفتح المقابسة السابعة عشرةلأبي حيان التوحيدي، في قضايا طرحت حينها، محاينة لما نعرفه، من حرية المعتقد، والتقاليد أو السُّنن والعقل، والعلاقة بينها، مما يبين أن العربية كانت لغة العقل :
“سُئل ابن سوار، هل ما فيه الناس من السيرة، وما هم عليه من الاعتقاد، حق كله، أو أكثره حق، أو كله باطل، أو أكثره . فقال المسألة هائلة. قيل أفدنا، أفادك الله، فإن رَكيّة (بئر) العلم لا تَنزح، وإن اختلفت عليها الدِّلاء، وكثُر على حافاتها الواردة. قال : اعلموا أنه أذا لُحظ استيلاءُ الطبيعة عليهم، وغلبةُ آثارها فيهم، في الرأي المعتقد، والسيرة المُؤْثَرة، فأكثر ذلك باطل، لأن سلطان العقل في بلاد الطبيعة غريب. وإن لُحظ حكم العقل، وما يجب به، ويليق بجوهره، ويحسن مضافا إليه، فأكثر ذلك حق، كان الملحوظ رأيا أو سيرة أو عادة. والحق لا يصير حقا بكثرة معتقديه، ولا يستحيل باطلا بقلة منتحليه، ولكن يُظن بالرأي الذي سبق إليه الاتفاق من جِلة الناس وأفاضلهم أنه أولى بالتقديم والإيثار، وأحق بالتعظيم والاختيار، لأنه يكون مُقوما بالبحث، مجبورا بالفلي، مصقولا على الزمان، تلمسه كل يد، وتجتليه كل عين، ويصير ثباته على صورته الواحدة دليلا قويا، وشاهدا زكيا، على حقيقته لأنه يبرأ حينئذ من هوى صاحبه، ويَعرى من تعصب ناصره.”
وقل ذات الشيء عن ابن باجة، وابن رشد، وابن ميمون، فأنت في حمى تراث الإغريق، وأنت في ملكوت العقل، وأنت معتلق بأدبيات تَقرن بين الأسباب والمسببات، وتجعل المقياس فيما يختلف حوله الأقوام هو العقل، و يصبح من ثمة آصرة لهم.
ثم أتت عليها فترة من السبات، مع العثمانيين، وهبّت من رقادها مع النهضة، وأصبحت لغة الإدارة ولغة الصحافة، وقام المسيحيون العرب ورجال الدين من المسلمين وليبراليون، بجهود جبارة، فتخلصت من الزوائد، وحملت أحلام الانعتاق، وبعثت تراثا مطمورا ونسجت على منواله كما فعل البارودي وشوقي وحافظ، مع الشعر، والموليحي مع المقامات، ولم تكن هاته الهبة، من شأن عرب المحتد في غالب الأمر، فهل يعزب عن بالنا أن أحمد شوقي من أصول ألبانية.
كان على اللغة العربية أن تمر بفترة تمرد، وتنفض ثقل الماضي، وتفك الارتباط بالدين، وتعانق العصر. هو مسلك طبيعيأن تثور ضدالقدسية وتتخلص منها. تلك مرحلة ضرورية بله طبيعية، إلا أن ذلك لا يُعفي من مرحلة ثالثة، هي إعادة القدسية لها، هي احترام عبقريتها، فأي فائدة أن أُبقي على نبت من غير رُواء، وعلى صورة من غير روح.
خصوم العربية ينطقون بجزء من الحقيقة، ودعاتها لا يمسكون الحقيقة المطلقة. تكتنف اللغة العربية صعوبات، ولا عيب في الجهر بها، تعترضها تحديات، لا يفيد التستر عنها، ولكنها في الوقت ذاته، تختزن تراثا غنيا يسعفها في الانبعاث، وتتضمن قدرة عجيبة على التطور والتكيف، وهو الأمر الذي يفترض محبتها أولا، وهو الشرط الأول، ولكنه غير كاف، وإتقانَها من لدن من يدافعون عنها، فيملكون ناصيتها، ويُسيرونها حيث يريدون لا حيث هي تريد، لأنها قد تستدرجهم بماضيها إلى الانفصال عن واقعهم. فليحافظوا عليها، وليرتقوا بها، ومن يدري، فقد تحافظ عليهم وترتقي بهم.
وصدق المتبني إذ يقول : والدُر دُرٌّ برغم من جهله، أو تجاهله.