لكل لغة خصائص ومميزات تميزها عن غيرها من اللغات البشرية اللأخرى. وعلى تعدد هذه الخصائص والمميزات تكون هذه اللغة أوقى وأدوم في تاريخ البشرية من تلك. والمتأمل في اللغة العربية يجدها لغة لها ما لا يتوفر في غيرها من اللغات العالمية الأخرى من ميزات تجعلها لغة مستمرة في الوجود الإنساني زمانا ومكانا. ولعل تميزها عن غيرها هو ما دفع عددا من الباحثين الغربيين إلى الاعتراف بجمالياتها وبخصائصها التي تجعل منها لغة إنسانية بامتياز.. لغة لم يعرف التاريخ البشري مثلا لها من قبل ولن يعرف مثلها في ما سيأتي من أيام. يقول المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس : “إنّ في الإسلام سنداً هامّاً للغة العربية أبقى على روعتها وخلودها فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة على نقيض ما حدث للغات القديمة المماثلة، كاللاتينية حيث انزوت تماماً بين جدران المعابد”.
ومن تشريف الله لهذه اللغة أن خصّها بحمل كتابه وجمع معانيه إلى الناس أجمعين، وهي لعمري وظيفة تضفي إلى ما لها من جماليات جمالا آخر يخصها بنور الله لأنها اللغة التي تكلم بها الله وأنزل بها آخر كتابه للعالمين. ولكن هذه الخاصية (حمل رسالة الله لفظا ومعنى) تسقط الكثير من أبناء المسلمين وغيرهم في خطأ فادح ناتج عن جهل بحقيقة العربية. يتمثل الخطأ في الاعتقاد أن اللغة العربية لغة القرآن. وهذا غير صحيح. إنما هي لغة العرب نزل بها القرآن، وشتان بين التعبيرين وما ينتج عنهما من فهم واعتقاد. إن التعبير الأول (العربية لغة القرآن) يجنح بنا إلى الاعتقاد بأنها لغة دينية قرآنية، ومن ثم فهي خاصة مخصوصة. وعليه، ينحصر دورها في الدين الإسلامي فقط. أما دورها ومساهمتها في العلوم وصنوف المعرفة المختلفة فلا يؤخذ بعين الاعتبار. أما القول الثاني (العربية لغة العرب نزل بها القرآن) فهي الحقيقة التاريخية الصحيحة والتي تهتدي بنا إلى الاعتقاد الصحيح أيضا؛ إنها أسبق تاريخا من القرآن الكريم. قال تعالى: (إنما يسّرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدّا) (مريم، الآية: 97). وعليه، فهي لست لغة القرآن، وإنما لغة ازدادت تشريفا بالقرآن.
وعندما قلنا في العنوان إن العربية لغة بيولوجية فنحن نقصد ما تعنيه الكلمة من معنى. ولم نستعملها هنا تجاوزا ولا استعارة. وهي حقيقة يغفل عنها كثيرون. إن المتأمل في اللغة العربية خصوصا يجدها تحاكي الواقع البيولوجي للكائن البشري. ليس هذا فحسب، بل إنها تحاكي الواقع البيولوجي لكل الكائنات والمخلوقات في الوجود. وهي -لعمري – خاصية لا نجدها إلا في هذه اللغة الخالدة. إن طريقة توالد الكلمات في العربية تسي وفق معطى وجودي؛ إذ لكل شيء في هذا الكون جذر و(أصل) منه وعنه تتفرع (الفروع). ورغم أن الأصل ليس هو الفرع من حيث الشكل والجوهر والوظيفة، إلا أن الفرع لا يخرج عن دائرة الأصل، ويحمل – بالضرورة – جيناته الوراثية التي تكشف عن ذاك الأصل. هذا منطق كل المخلوقات في الوجود، منطق يجعل الفرع يخرج عن الأصل ويتفرّع عنه، وفي الآن نفسه لا يستطيع الفكاك من (أسره) فالفرع لابد أن يحمل من الخصائص الوراثية التي تربطه بالأصل وتكشف عن مصدره. ولا وجود لشيء في هذا العالم من المخلوقات يأتي من فراغ أو يتولّد من لا شيء. وهذا المنطق لا نجده ينطبق إلا على اللغة العربية وحدها، مما يجعلها بحق لغة إنسانية بامتياز، إنسانية في حياته وتوالد كلماتها ووتتابع أساليبها، وإنسانية في قدرتها على التعبير ومحاكاة الواقع الحقيقي والفعلي للمخلوق البشري. وإذا كانت قادرة على حمل معاني الله لفظا ومعنا – وهي المعاني السامية الربانية التي يعجز كل إنسان على ان يأتي بمثلها – أفلا تكون قادرة على مجاراة الإنسان في تعبيره عن كل شيء؟ وفي توظيفها في علومه وصنوف المعرفة المختلفة؟ بلى والله إنها لأقدر وأجدر أن تتبوأ المكانة السامية التي تليق بها؟
ولنضرب مثال بسيطا في العربية لنبين الحقيقة البيولوجية لهذه اللغة الوجودية بم يلي:
لكل لفظ في العربية أصل هو ما نتعارف عليه ب(الجذر)، فكلمات مثل (كَتَبَ) و(كاتَب) و(كِتاب) و(مكتبة) و(كُتّاب) و(مكتب) و(كتابة) و(كُتُبيّ) و(استكتب) و(كاتِب) ومكتوب) ترجع بالضرورة إلى أصل واحد هو الجذر (ك.ت.ب) الذي يدلّ في معناه العام على الكتابة وما له علاقة بالكتابة. لكن في الآن نفسه لا يمكن بأية صورة أن نقول إن (مكتبة) هي (كتاب) أو إن (كتَبَ) هي (كاتَب) ..الخ. إذ لكل مفردة استقلاليتها لفظا أو تركيبا ومعنى خاصا يميّزها عن غيرها من المفردات التي من نفس جذرها. وهذا ما لا نجده في اللغات الآخرى. ويكفي أن ندلّل على ذلك في الفرنسية حيث لا نجد كل المفردات تنتمي إلى أصل واحد وإن حملت المعنى العام نفسه؛ فالفعل (Ecrire) لا علاقة له بـ (Bibliothèque) أو بـ (Livre).
إن حياة الفرع رهينة بوجود الأصل، واستمرارية الأصل رهينة بوجود الفرع أو الفروع. وهي الطريقة ذاتها التي يحيا بها الإنسان في هذا الوجود؛ فالأبناء في كل أسرة من أصل واحد (أب وأم) وكل ابن – وإن كان يحمل الجينات الوراثية نفسها التي يحملها باقي إخوته والتي تنسبه بيولوجيا إلى أمه وأبيه – فإنه يختلف كيانا وشكلا وطريقة في التعبير والتصرف والكلام .. عن باقي إخوته. والأمر نفسه ينطبق على باقي الكائنات في هذا الوجود. فلابد لكل شيء من أصل (جذر)، ولا بد لكل أصل من فروع ضمانا لاستمرارية الحياة، ومن ثمة ضمانا لاستمرارية الوجود.
ولما كانت اللغة لصيقة بالإنسان وبهمومه ومشاكله ومشاعره وكل دواخله ودوافعه ورغباته وحاجاته، فإنّ العربية قدِّر لها أن تحاكي هذا الواقع محاكاة تامة لتكون أبلغ في التعبير وأدقّ في الافصاح عن مكنونات النفس ودواخلها.
وما دام الأمر على هذا النحو، فإن هذا المعطى يجعل من العربية لغة بيولوجية تتناسل وتتوالد لتضمن استمراريتها في الوجود ليس الإنساني فحسب، وإنما الوجود بمفهومه العام. ومن ثم، تكون لغةً وجودية يستحيل أن تموت أو تنفى إلا بفناء الإنسان الذي يتكلمها. ومادام القرآن الكريم آخر رسالة سماوية إلى الناس أجمعين إلى قيام الساعة، ومادام أيضا هو الكتاب الخالد الذي سيبقى دستورا لهم في حياتهم وشهيدا عليهم بعد مماته وقد أنزِل باللغة العربية، فلا شك أنّ هذا التشريف لهذه اللغة سيزيد من تمييزها عن غيرها من اللغات، ومن ثم، سيضمن استمراريتها في الوجود. أفلا تكون العربية – بعد كل هذا – لغة إنسانية بيولوجية وجودية تستحق كل التقدير والثناء والاعتناء والكفّ عن المحاولات البائسة اليائسة من أجل تقويضها أو محوها. إن من يفعل شيئا من هذا لهو أحمق لا يعرف حقيقة الوجود الذي يحيا فيه.
وإذا كانت اللسانيات قد ألغت مبدأ المفاضلة بين اللغات فهذا كان لإدخال كل اللغات الطبيعية في دائرة الدراسة والتحليل ليس إلا. ولا ينبغي أن يفهم منه على أنه لا وجود للغة أفضل من أخرى. فبئس الفهم إن كان كذلك. لكن بعد الدراسة والتحليل يستحيل ألا نفاضل بين اللغات. إن الدراسة اللسانية للغات إنما هي كشف عن الخصائص والميزات التي فيها والتي تجعل منها لغة تواصل يومي قادرة على التعبير والتفكير من خلالها وفيها وفي العالم ككل.
كما أن الدراسة اللسانية للغات الطبيعية إنما هي من أجل الكشف عن القوانين العامة التي تنظم التعبير اللغوي لدى الكائن البشري من أجل نظرية عامة وشاملة للغة وللتفكير الإنساني. وما دام هذا حال اللسانيات، فإننا نرى أنه من الخطأ بناء تصورات ونظريات عامة وشاملة بناء على لغات لا تستطيع أن تضمن الاستمرارية لنفسها، ولا يكاد يمضي زمن حتى تمّحي وتظهر لغة جديدة لم يألفها الناس من قبل. وعليه، تكون اللغة العربية – بامتياز – اللغة التي تستحق أن تكون منطلقا في الدراسات اللسانية لأنها اللغة البيولوجية الوجودية التي ضمنت لنفسها – بما لها من خصائص ذاتية، وبتشريف الله لها بحمل رسالته السماوية – الاستمرارية في الزمان والمكان، والقدرة على التعبير وحمل المعاني الإنسانية والربانية على السواء.