نُشِرَ في القدس، بتاريخ: 26/12/2014م، ص18
عزيز العصا
يرى الفيلسوف الفرنسي “إميل بنفنست” بأن اللغة كيان ذو وجهين: فهي من جهة واقعة فيزيائية (مادية)؛ إذ تستخدم الجهاز الصوتي لتظهر والجهاز السمعي لتُدرك. وهي، من جهة أخرى “لا مادية”؛ إذ أنها إيصال لمدلولات معوضة للأحداث والتجارب (بالإشارة إليها)[1]. ويقول الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي “رولان بارت”، بأن للغة وظيفة سلطوية؛ إذ لا يمكن للفرد أن يمارس اللغة دون أن يخضع لضوابطها وقواعدها النحوية والتركيبية، أما على مستوى المضمون فإن تعلم الفرد اللغة يعني استبطانه لمختلف القيم والمضامين الفكرية التي تختزنها اللغة بحيث تصبح جزءًا من شخصيته وتمارس عليه سلطة سواء على مستوى القول أو الفعل[2].
أما اللغة العربية؛ فتشير الموسوعة “ويكيبيديا” إلى أنها من أقدم اللغات السامية، أكثر لغات المجموعة السامية متحدثينَ، وإحدى أكثر اللغات انتشارًا في العالم؛ يتحدث بها أكثر من (422) مليون نسمة، ويتوزع متحدثوها في في الوطن العربي، بالإضافة إلى العديد من المناطق الأخرى المجاورة، وهي من بين اللغات السبع الأكثر استخدامًا في الإنترنت، وكذلك الأكثر انتشارًا ونموًا؛ متفوقةً على الفرنسية والروسية.
أما من حيث قوة اللغة والقدرة على انتشارها، فيعود ذلك إلى الأمة الناطقة بتلك اللغة، ومدى تحقيق حضورها بين الأمم، إذ يقول العالم “ابن حزم الأندلسي”[3]: قوةُ اللُّغَةِ في قُوَّةِ أَهْلِهَا؛ فاللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم.
لأن الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي أُنشئت على أنقاض الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي، قامت على توازنات القوى بين أمم الأرض، وللحال الذي تعانيه أمتنا وجدنا أن اللغة العربية قد استبعدت من الاستعمال، كلغة رسمية، في أروقة الهيئات التابعة لها. وبعد جهود حثيثة، اتخذت اليونسكو في العام 1960؛ قراراً يقضي باستخدام اللغة العربية في المؤتمرات الإقليمية التي تُنظَّم في البلدان الناطقة بالعربية وبترجمة الوثائق والمنشورات الأساسية إلى العربية. وباستمرار تلك الجهود، وبعد أن حققت الأمة حضورًا سياسيًا وعسكريًا على الساحة الدولية، صدر في 28/12/1973 قرارًا يوصي بجعل اللغة العربية لغة رسمية للجمعية العامة وهيئاتها. وفي العام 2012 تقرر تكريس يوم 18/12 من كل عام يوما عالميا للغة العربية.
وقد أردت من هذا السرد، تنبيه أولئك المتحدثين باللغة العربية، بخاصة في وسائل الإعلام الموجهة إلى أبناء الأمة، ومصادر التعليم والتثقيف، التي تفرض على المتلقي أخطاءً، بل خطايا لغوية تحرف الحديث عن معناه، وتودي به بعيدًا عن الهدف المُراد، أنهم يسيئون لأنفسهم، أولًا، وللفئات التي يتوجهون إليها ثانيًا، وللمؤسسة التي يعملون من خلالها ثالثًا. كما أردت التوجه إلى الكتّاب والأدباء والرواة والشعراء وخطباء المساجد ومرددي الشعائر في الكنائس…الخ، بأنه عليهم أن يتقوا الله فيما يكتبون ويلفظون وينطقون؛ لأن في ذلك إيذاءً حقيقيًا للمتلقي (القارئ و/أو المشاهد والمستمع) الذي من حقه أن يتمتع بلغته “القومية” كباقي بني البشر من أبناء الأمم الأخرى، الذين يمارسون لغاتهم، دون أن يلحنوا ولا يخطئوا.
كما أردت التذكير، بأن لغتنا، لغة عالمية، تعترف بها كل أمم الأرض؛ فعلينا أن نكون، كل من موقعه، قادرين على حفظها وحمايتها. وإذا سأل أحدهم عن كيفية تحقيق ذلك، فإنني أورد ما يراه الشيخ د. عكرمة صبري، في كتابه “الإسلام والأيام العالمية، ص: 269-271″، من أن للغة العربية ميزات عدّة، منها:
- الديمومة: فهي دائمة وقائمة إلى يوم الدين, لأنها لغة القرآن الكريم فالله –سبحانه وتعالى– يقول: ” إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ” }الحجر:9{, بالإضافة إلى أنها لغة أهل الجنة.
- تمتاز بالاشتقاق والتوليد؛ في الألفاظ والكلمات والموازين الصرفية للفعل الثلاثي وما فوق الثلاثي, مما جعلها غنية وثرية بمئات الآلاف من الألفاظ والكلمات.
- مزيدات الحروف: إن مزيدات الحروف على الأفعال تعطي معانٍ جديدة ومتعددة ومتنوعة ومتشعبة, فنقول على سبيل المثال: غفر الله ذنب التائب, ونقول: استغفر العاصي ربه, أي طلب المغفرة من الله, فنلاحظ أن زيادة الحروف (همزة الوصل والسين والتاء) قد أعطت معنى جديداً, وهكذا.
- مناسبة الحروف للمعاني: تمتاز اللغة العربية بأن حروفها مناسبة لمعانيها, فالمعنى الضخم يعبر عنه بحرف ضخم في النطق والسمع, والمعنى اللطيف الرقيق يعبر عنه بحرف رقيق في النطق والسمع.
- الإعراب لأواخر الكلمات: بالإضافة إلى (علم الصرف)، هناك (علم النحو) الذي يهتم بالإعراب من الرفع والنصب والجر للأسماء, ومن الرفع والنصب والجزم للأفعال.
- علوم البلاغة: إن الموضوعات البلاغية في اللغة العربية متعددة ومتشعبة من خلال علوم: (البيان والمعاني والبديع), بما في ذلك معاني الحقيقة والمجاز والتشبيهات والكنايات.
- التعريب في اللغة: إن اللغة العربية قادرة على التعريب, أي تعريب الألفاظ الأجنبية المستحدثة والمستجدة من لغات أخرى إلى اللغة العربية, وإن اللغة العربية قادرة أيضاً على تهذيب هذه الألفاظ “الدخيلة” وإخضاعها إلى موازين اللغة العربية, وأشير إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر: الهاتف, المذياع, السيارة, الثلاجة, الطائرة, الدبابة, الصاروخ, وغيرها, فاللغة العربية تمتاز بالثبات كما تمتاز بالتطور أيضاً, فهي تتقبل ألفاظًا دخيلة وتعربها.
بعد هذا كله؛ بقي القول: إن لغتنا دليل عزتنا، وتعبير عن قوتنا وحضورنا الحضاري بين أمم الأرض. فهل بقي، بعد ذلك، من مبررٍ لأن نستمر في إهمالها وعدم الاكتراث بها عند أحاديثنا وخطاباتنا وكتاباتنا، دون أن نرعى ونراعي جمالياتها التي تتمتع بها بين لغات بني البشر، وهل يبقى للأمة وجود في ظل إهمال لغة “القرآن” الذي هو دستورها وملهم وجودها، كأمة حية؟ وهل يمكن لأحدٍ أن يقول: لا تسألني عن اللغة؛ بل اسألني عن المعنى. فهل يبقى معنى لما يقرأُ نشازًا، ويُكتب بقلم شاردٍ؛ لا راعٍ له ولا دليلٍ، ويُنطق بلسانٍ معوج؛ يحرف الكَلِمَ عن مواضعهِ؟
لأن الفرد هو من يحمل اللغة، وهو من يذود عنها، فإنني اتوجه إلى معلمينا الأفاضل، ونحن في أجواء “يومهم”، وإلى الآباء والأمهات بأن يضعوا نصبب عيونهم ما يقوله “د. عكرمة صبري” من أن اللغة العربية وتدريسها، وحمايتها والمحافظة عليها، هي من العبادات الوجوبية؛ منها ما هو واجب عيني (على عاتق كل فرد)، ومنها ما هو واجبٌ كفائي (على عاتق المكلفين).
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 14/12/2014م
[1] محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي. اللغة: السلسلة رقم -5- من “دفاتر فلسفية مختارة”. دار توبقال للنشر. الدار البيضاء، المغرب. الطبعة الخامسة. ص: 42.
[2] http://al-nnas.com/ARTICLE/MShatab/1spo.htm
[3] محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي. اللغة: السلسلة رقم -5- من “دفاتر فلسفية مختارة”. دار توبقال للنشر. الدار البيضاء، المغرب. الطبعة الخامسة. ص: 58.