القدر يربط بيني وبين العربية

درست اللغة العربية الفصحى سنتين في الصين بصفتي طالبة متخصصة في اللغة العربية وثقافتها، كنت أستوعب المحادثات اليومية، القواعد الأساسية وشيئا قليلا من العادات والتقاليد العربية. بعد ذلك، سافرت إلى الأردن وعشت ودرست فيها ثلاثة أشهر، بقيت في أكاديمية اللغات لمواصلة العربية الفصحى، وابتداءً من العامية الأردنية، كنت أستطيع أن أتحدث وأتبادل الآراء مع السكان الأردنيين في الشوارع باستخدام تعبيرات محلية. والآن، أنا وحدي، حاملة خبرات مع العربية لمدة سنتين ونصف تقريبا، أعيش في فاس، المغرب، لاختبار الحياة المختلفة الجديدة. وفي هذه الأثناء، أحاول أن أجد كل الفرص المتعلقة بالعربية لتطبيق قدراتي اللغوية. أما عن مستقبلي وكيف سيكون؟ أود أن يكون مجال عملي متعلقا بهذه اللغة، لأنّ القدر يربط بيني وبين العربية!
ما زلت أتذكر قبل سنتين، حاملة لدرجة الامتحان الوطني لدخول الجامعة GaoKao، كنت أختار مادة التخصص والجامعة بحذر. أحببت اللغة والثقافة المختلفة، وكل اختياراتي كانت مرتبطة باللغات الأجنبية، ولكن وضعت العربية في الاختيار الخامس بسبب عدم فهمي للثقافة العربية بعمق. ومن الاختيار الأول إلى الرابع كلها لغات أوروبية، ربما لأن الإعلام الغربي يحيط بحياتنا اليومية.

وأظهرت النتيجة الاختيار النهائي وفي الحقيقة أدهشتني، كنت مختارة بالعربية، يا إلهي! ما هي اللغة العربية؟! جاءتني الصورة في قلبي: رجال وسيمون يلبسون جلابيب بيضاء، يسوقون إبلهم مع بضائعهم: شاي، فخار وخزف، قطن، صوف ولؤلؤ… إلخ. والصورة الأخرى هي مثلٌ مضحك مبكي يقول: “إذا أردت أن تنجح في مجال اللغات، فتحتاج ثلاث دقائق للغة الكورية، وثلاث ساعات للإنجليزية، ثلاثة أيام للفرنسية، ثلاثة أسابيع لليابانية، ثلاثة شهور للألمانية، ثلاث سنوات للروسية، أما العربية، والله ثلاثمائة سنة! ما أصعبها!”، والصورة الثالثة: الرسم المعقد المليء بأشكال كآثار أقدام النمل، وهذا الرسم هو حروف العربية. كان قلبي حافلا بالتفكير في هذه اللغة، ما لبث أن بحثت عنها على الإنترنت، ظهر مصطلحها: إنّ اللغة العربية تنتمي إلى اللغة السامية، وهي اللغة الرسمية لاثنتين وعشرين دولة عربية وأربع منظمات دولية. يبلغ عدد السكان الذين يستخدمون العربية بلغة الأم أكثر من أربعمائة مليون. واللغة العربية هي أيضاً اللغة الرسمية لدين الإسلام، لذلك، أكثر من مليار من البشر يستخدمها في كل أنحاء العالم. ما أعظم هذه اللغة، شعرت كأن العربية قالت لي: إنني متواضعة الشكل، ولست معقدة كما تظنين، ولكن روحي جذابة لك! قلت لنفسي: من اللازم أن أبذل الجهود لدراسة العربية، لأنها قدري ولأنها اختارتني!

المواطنون الأردنيون مؤدبون ولطيفون، يساعدونك مجانا وبرضا عندما تقابل الصعوبات في اللغة أو في الحياة. وكنت أمزح مع أصدقائي: كل أردني أستاذ لتعليم العربية!


جاء الفصل الجديد وكل الطلاب في فصلنا “العربية” أصبحت لدينا أسماء جديدة ومغزى هذه الأسماء إيجابي ولطيف. اسمي العربي منال، متقارب من معناه الصيني، وكلاهما يعني آمال جديدة. جميع الطلاب سعداء لأن لدينا أسماء جميلة وأحببنا أن نشاركها أصدقاءنا وأقاربنا، وهم في غبطة وسعادة أيضاً. ولكن في عملية الدراسة، كل شيء ليس سهلا كما توقعت، وكنت دائماً شاردة الذهن. استطاع أن ينطق الطلاب بالحرف الراء ببساطة إلا أنا، واستطاعوا أن يستذكروا أوزان الفعل بدون صعوبة إلاّ أنا. صارحت نفسي: اتركي اتركي، يا منال، لا تلائمك العربية!

بعد لحظة، جاءتني نتيجة الامتحان المتوسط للفصل، يئست ولكنني لم أستغرب ذلك، لا شك أني سأحصل على درجة امتحان ضعيفة. المشكلة من جهة مخيبة للأمل، ومن جهة أخرى، كنت متكاسلة. في ذلك الوقت، ظهرت المعلمة الملهمة اسمها العربي شهيرة، شجعتني وجعلتني أحس بدفء كبير. قالت لي: “مع أنّ العربية صعبة، ولكن الصعوبة على كل الطلاب، ليس عليك فقط. ما دمت تجتهدين، فستنجحين. بالإضافة إلى ذلك فأنت بنت فطنة ذكية، وأنا متأكدة بأنك قادرة على ذلك”. كلامها جعلني أفكر: ربما أستطيع أن أغير العربية من عدوتي إلى صديقتي الحميمة. ألا تريدين المحاولة؟ طبعا أنا أحب التحديات! وألقيت عاطفتي السلبية وأهملت النتيجة وتمتعت بعملية الدراسة، وأخيرا بعد جهودي الفعالة، تقدمت كثيرا! وقلت لنفسي: يا أختي العربية، لن تنتهي حكايتنا بهذه السهولة!

في السنة الثانية في الصين تغلبت على اليأس وأحسست بالروعة والتميز! وشعرت بالحميمية الحقيقية للعربية. حدثت معي ثلاثة أمور صغيرة خارج الجامعة، مما أدى إلى تطبيقي العربية في الحياة.

الأول، اخترت كمترجمة متطوعة لشخص مهم في مؤتمر الإنترنت الدولي، وقدّمت الخدمة اللغوية مع زميلي أمين إلى وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في السودان. في ذلك الوقت، كان مستواي اللغوي ليس عالياً وأيضاً لم أكن أتكلم بطلاقة، وما زلت أتذكر فكاهتي مرة. في ليلة ما، قال الوزير لنا: تصبحان على خير. هذه عبارة خاصة وكانت بعد إتمام العمل في ذلك اليوم، لكننا ما درسنا هذا التعبير. ونحن-أنا وأمين-متعجبان منها: كيف نصبح بخير في هذه الليلة؟ تساءلنا: هل سلوكنا وخدمتنا خلال اليوم ليسا جيدين؟ سألت الوزير عن السبب وقد اندهش. بعد أن تناقشنا حوالي نصف ساعة، أخيرا فهمنا وانتهينا بـ‘تصبح على خير’ باللغة الإنجليزية. من الممتع أنه عندما رجعنا إلى جامعتنا، درسنا هذه العبارة في الدرس الجديد.

 

الأمر الثاني كانت لدينا حفلة السنة الجديدة وفيها عرض لمختلف الثقافات، واخترت بصفتي ‘موديل’ مع زميلي أمين لعرض الثقافة العربية. يا رب يا رب! ما أسعدني! لبست جلبابا أسود، حناء جميلة على يديي، وزخرفة ذهبية على رأسي، وشفتي حمراء، والماكياج على الطريقة العربية! والله صرت مثل بنت عربية! بعد أن شاركت الصور على الفيسبوك والويتشات WeChat، صديقتي السعودية منى أرسلت لي رسالة على هاتفي: يا منال، كم أعجبت بارتدائك الزي العربي ونقش الحناء على يديك، مثلتِ العرب بشكل رائع، إلى الأمام دوما عزيزتي! بعد أن تسلمت هذه الرسالة، كنت متأثرة. هل ساعدت صديقتي بسبب العربية؟

على هذه الأرض ما يستحق الحياة، كتبت: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة: طعم الملوخية، لون السماء، جمال البحر والوادي، اللغة العربية وصوت عمر العبداللات، وحماسة الأصحاب، المساجد والكنائس، والناس الطيبون.

الأمر الثالث هو الأحلى في قلبي لأنه تأكيد لقدراتي الأكاديمية: تحت تشجيع ومساعدة المعلمة شهيرة، نشرت بحثي في مجلة أكاديمية وموضوعه: (استراتيجية الحزام والطريق: تعزيز قدرات الممارسة الاجتماعية لدى طلبة اللغات الأجنبية “طلبة تخصص اللغة العربية بجامعة جيجيانغ للدراسات الدولية كحالة دراسة”).  كتابة البحث صعب في البداية وخاصة إذا أردت أن تسأل الأسئلة بالعربية، وكذلك من اللازم أن أقرأ وثائق كافية، ومن الضروري أن أشكل رأيا خاصا حقيقيا، وفي الأخير أتمته. هذه الأمور الثلاثة الرئيسية ما فعلته بالعربية، لكنها تعتبر ثلاث فرص جعلتني أوطد علاقتي مع اللغة العربية.

بعد ثلاثة شهور، سافرت إلى الأردن، وحياتي هناك كانت سهلة وأيضاً ومريحة. بيئة اللغات في الأردن جيدة جدا. العامية الأردنية متشابهة بالعربية الفصحى وهي أيضاً شائعة في بلاد الشام: الأردن، لبنان، فلسطين وسوريا. وكذلك وسيلة التعليم العامية لها قوانين قوية. أيضا المواطنون الأردنيون مؤدبون ولطيفون، يساعدونك مجانا وبرضا عندما تقابل الصعوبات في اللغة أو في الحياة. وكنت أمزح مع أصدقائي: كل أردني أستاذ لتعليم العربية! وخلال هذه الثلاثة أشهر، زرت المناظر والآثار مثل البحر الميت، البتراء الوردية، وادي رم، جرش وعجلون… إلخ. كل المناظر لها قصص خاصة، واستماع القصص بالعربية نابض ومليء بالحياة. وتجربة سفري في الأردن مختلفة عن تجربتي في الصين. هنا السفر حُر وخام، مثل الاستكشاف، وشعرت بنشاط وحيوية أكثر مما كنت في بلدي. في آخر درس لي في الأردن، كتبت الشعر اقتداء بالشاعر محمود درويش، عنوانه على هذه الأرض ما يستحق الحياة، كتبت: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة: طعم الملوخية، لون السماء، جمال البحر والوادي، اللغة العربية وصوت عمر العبداللات، وحماسة الأصحاب، المساجد والكنائس، والناس الطيبون”، لن أنسى حياتي الحلوة في الأردن، وقد تقدمت كثيرا في اللغة أيضاً.

حتى الآن، أنا في فاس، المغرب منذ عشرة أيام. كل شيء في هذا البلد جديد بالنسبة إلي. الدارجة المغربية مختلفة والثقافة المغربية خاصة. المغرب دولة تختلف عن المشرق العربي ولكنها دولة ثقافتها متميزة وبشكل عام، إنها “ملونة”، هذا يجذبني أكثر. مع أنّ الدارجة المغربية مختلفة عن الفصحى ولكنني أفضل محاولة معرفتها. إن شاء الله خلال شهرين يمكن أن أجرب عادات وثقافات جديدة هنا.

عندما أستعرض العلاقة بين العربية وبيني، أجد بسعادة أنّ العربية تعطيني الفرص وهي مفتاح لفتح أبواب في العالم العربي وكذلك في كل أنحاء العالم. تعرفت على أصدقائي الجدد، وعرفت عادات وتقاليد جديدة وخلفيات ثقافية مختلفة، لقد تعلمت كيف أحترم التنوع والاختلاف، وأعدت اكتشاف نفسي من جديد بفضل اللغة العربية. في الحقيقة لا ولن تنتهي حكايتي مع العربية عند هذا الحد.  بل هي البداية في مستقبلي، أود أن أتبع قلبي، قلبي الذي يهمس لي بأنني لابدّ من إكمال الطريق والعلاقة مع العربية حتى آخره. يا رب، يا رب! 

التعليقات (0)
إضافة تعليق