الخراز عبد السلام
شغلت قضية اللغة بال المفكرين والباحثين واللغويين قديما وحديثا، فتراثنا العربي زاخر بمثل هذه الأبحاث والدراسات حول أصل اللغة وطبيعتها ووظيفتها* و ..إلخ.
وفي عصرنا الحاضر استبدت مشكلة اللغة بهمومنا وشكلت محور اهتمام الكثير من اللغويين واللسانيين والدارسين والمعاهد والمجامع اللغوية ومراكز البحث، واحتلت البحوث حول اللغة واستعمالاتها حيزا هاما في مشهدنا السياسي والثقافي والإعلامي على الخصوص ، وتصدرت القضية النقاشات العمومية ، وأصبحت الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية تطالعنا بشكل شبه يومي بمقالات حول اللغة وخاصة في التدريس ،حتى تحدث البعض عن عقدة اللغة باعتبارها تشكل أكثر من المشكلة ، فهي منذ كانت متعلقة بالوطنية ومنذ كانت متعلقة بالفكر والدين والهوية ومنذ كانت متعلقة بالعرق والسياسة والتعددية والاقتصاد…
إذا كانت قضية اللغة وما يتفرع عنها بهذا الحجم من التعقيد والخطورة فالحديث بشأنها ليس بالأمر الهين، والأولى أن يخوض في هذا الموضوع من يملك تصورات واضحة وأدوات علمية متخصصة بعيدا عن الجدل الذي لا يفضي إلى نتائج علمية .
ومن المواضيع التي يتناولها مثقفونا وإعلامنا هذه الأيام “لغة التدريس” وهي جزء صغير من القضية الكبرى “قضية اللغة” ولكن له أهميته الراهنة ، فالحديث عن العامية أو الدارجة أو التلهيج في التدريس لا ينبغي أن يُطرح في إطار الصراع بين اللغات داخل المجتمع الواحد وهيمنة لغة أو لهجة على أخرى والقضاء عليها ، وهو صراع مصطنع وبعيد عن الواقع ، ومن ثم فالازدواجية بين الفصحى والعامية في التدريس حاصلة وموجودة ويتحدث الجميع بمستويين للغة : المستوى الأول فصيح وهو كتابي والثاني عامي ويقترب من الفصحى وهو في الغالب شفوي ويحصل تكامل بين الجانبين ولا يوجد صراع على الإطلاق إلا في أذهان من يريد إحداث تصدع في جسمنا اللغوي ، فما من لغة إلا ولها عامية أو عاميات وفي كل لغات العالم على سبيل المثال في فرنسا هناك اختلاف في لهجة الشمال والجنوب والوسط عن الفرنسية الفصحى هذا عن مسالة الصراع .
لابد من التفريق بين اعتماد العامية في التدريس بشكل عفوي من أجل تقريب مفهوم معين واعتمادها بشكل رسمي في التدريس كما ينادي بذلك البعض، فالفرق شاسع بين الأمرين، ولا ينبغي أن يكون الرأي الأخير الذي يقول باعتماد الدارجة في التدريس صادرا عمن يجهل مقومات اللغة العربية الفصحى الذاتية والمعنوية ويتبرم منها وربما يكن لها العداء، وهي على كل حال دعوة قديمة سخر لها الاستعمار كل طاقاته من أجل النيل من الفصحى، وقبل الاستعمار كانت هناك دعوات تبشيرية واستشراقية وكلها دعوات ناقمة على العربية .
ولا شك أن من يدعون ويتبنون الطرح القائل باعتماد العامية في التدريس بدل العربية الفصحى يرتكبون أخطاء معرفية كبيرة، إذ لا مجال للمقارنة بين لغة بُذل جهد كبير في دراسة ألفاظها وتراكيبها وصرفها وبلاغتها وأصواتها و… من لدن لغويين ونحويين ومناطقة وبلاغيين وأصوليين و….على امتداد قرون وأزمنة وتاريخ طويل وجغرافية واسعة، وعامية فيها اختلالات صرفية وصوتية وتركيبية وفي بعض الأحيان عشوائية من قبيل تأنيث المذكر وتذكير المؤنث في بعض اللهجات ولا داعي لذكر الأمثلة.
والحقيقة لا قياس مع وجود الفارق كما يقول د مصطفى بنحمزة “إذا كان أمر العربية على هذا النحو من الشساعة والدقة والضبط ، فإن توهم إمكان تفريغ معانيها ودلالة ألفاظها في لهجة عامية يكون أشبه بمحاولة تفريغ بحر محيط في كأس صغيرة ”
أما قضية ربط الضعف الدراسي والتعثر المدرسي بلغة التدريس فلا يقوم على حجة ولا دليل لأن الضعف يكون أكثر في المواد التي تدرس بغير العربية كالفرنسية وغيرها و وهو ضعف عام يرتبط بعوامل أخرى بيداغوجية وتربوية وسوسيوثقافية يعرفها المتخصصون ، ودعاة العامية ليس غرضهم إصلاح التعليم ولا قضية الفشل في منظومتنا التربوية بقدر ما يهمهم تصفية حسابات مع لغة يكرهونها ولا يستطيعون التحدث بها . الدكتور عبد السلام الخراز باحث في الدراسات العربية
*على سبيل المثال لا الحصر ابن جني في الخصائص