نجم الدين خلف الله – العربي الجديد
لم توافق منظمة الأمم المتحدة على اعتبار العربية لغةً عالمية إلا منذ 2012، رغم أنَّ كفاح الدول العربية لاستخدام لغة الضاد في أروقة هذه المنظمة وهيئاتها يعود إلى سنة 1945، بدايات تأسيسها المترددة. وما كانت هذه الموافقة لِتتحقق لولا ضغوط دبلوماسية وتضحيات مالية جسيمة قدّمتها الدول العربية، الفتية آنذاك.
فما دلالات التنازع بين القوى العظمى والبلدان العربية حول اعتماد لغتها في المنظمة الدولية؟ وبأيِّ معنًى صارت العربية المعاصرة جزءًا من نسيج الخطاب العالمي وليست مجرد لغة قومٍ منغلقين على ذواتهم؟
يكشف الإعلان عن إقرار يوم 18 كانون الأول/ ديسمبر يومًا عالميًا للغة العربية، بعد نضالٍ استمرَّ ستة عقود كاملة، عن ضراوة الصراع الذي عاشته الدبلوماسية العربية حتى تفرض لغتها أداةَ عمل في المؤتمرات والهيئات الدولية، كما يعكس حجم المجهودات المبذولة لتصير هذه اللغة قادرة على صياغة مقولات السياسة ومفاهيم القانون الدولي بكل تعقيداته وفوارقه الدلالية والفنية.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا التاريخ يصادف اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها (رقم 3190)، للمصادقة على إدراج لغة الضاد ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة واتخاذها أداةَ تشاور في أروقتها المغلقة، كما في مداولاتها وسجالاتها العلنية، وذلك بناء على اقتراح مُزدوج، قدّمته السعودية والمغرب للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو.
على أنَّ هذا الاعتراف، وإن تَأخَّر صدوره وحُمدت عواقبُه، يُخفي استعلائية-لغوية، تتربع من خلالها الإنكليزية على عرش التواصل السياسي والقانوني، وتأتي بعدها الفرنسية والإسبانية والبرتغالية… وهو ما يشي بضرب من المركزية-الأوروبية على الذات، يعتبر سائر اللغات هامشية، لأنَّ الناطقين بها (والدول التي تمثلهم) لا يملكون النفوذ السياسي الكافي لفرض قراراتهم والدفاع عن مصالحهم في خضمِّ الصراعات الاستراتيجية التي تهزّ العالم.
كانت هذه المركزية فَجّة، حكمت على بقية اللغات بالهامشية، ورأتها مفتقرةً إلى مفردات تحيل على مقولات العصر ومراجع الممارسة والفكر السياسِيَيْن. وتأكدت هذه الفوقية اللغوية، وعلى وجه الخصوص حيال العربية، بسبب وضعية العالم العربي الذي نشأ وتنامى دُولاً متشرذِمة، ما إن تحرَّرت من نير الاستعمار والطمس الثقافي، حتى دخلت عهود التبعية الاقتصادية والضياع الثقافي، وظلت تتأرجح بين فظاظة التغريب وفوضى التعريب.
وتفاقمت آثار هذه الاستعلائية بسبب التهميش المقصود الذي لحق العربية أولاً من الناطقين بها (وضَيْمُ ذَوي القُربى أشَدُّ…)، وقد اشتهروا بتفضيلهم التعبير بغيرها من اللغات في المحافل الدولية. وطالها ثانيا من الأجانب الذين حكموا بوعورتها وتعقيد تراكيبها وشعرية صورها، فأزاحوها حتى لا يتجشموا مشقة تعلّمها والتعامل بها. وكأنَّ قرارهم، بعد طول انتظاره، بإدراجها لغة عمل، “مِنَّة” ثقافية، يُكَفِّرون بها عن سالف جُحودهم لها ولأهلها، وتراجعٌ عن إنكارهم العنيد لإسهامها في التراث العالمي.
على أنَّ حقيقة الواقع اللغوي مغايرة تمامًا لتصورهم السطحي هذا: فاللغة العربية المعاصرة، وقد انبثقت من أحشاء الكلاسيكية ومظان البلاغة فيها بعد اصطدامها -خلال القرنين الماضيين- بمنجزات الحداثة وما أحدثته من تحولاتٍ جذرية، قد ولجت التاريخ الكبير، فصاغت آلاف المفردات والعبارات والمفاهيم الذهنية التي تشمل كل ما تفتقت عنه نصوص الدبلوماسية وتشريعات القانون الدولي ومعاجم الصحة والثقافة والأنشطة العسكرية وتقليعات الموضة… فلم يعد الاعتراف بها إشادةً بتسامح القوى العظمى مع لغة الآخرين، بل هو واقع حتمي بات يفرض نفسه: اللغة العربية المعاصرة جزء من النسيج العالمي للخطاب، تتجلى فيه قدرتها على الاغتناء الذاتي وإغناء غيرها، بما تتضمنه من الصور والمفردات وتنويعات أفعال الكلام.
وللتدليل على عالمية العربية وانتشارها في آفاق الألسن والثقافات الأخرى، يكفي التذكير بأنَّ العديد من أسماء عناصر المعيش اليومي، في القاموس الفرنسي، مقترضٌ من العربية مثل: قهوة، قطن، سكَّر، مخزن، سَفر… وكذا شأن مصطلحاتِ الميدان العلمي، وليس أشهر من كلمات: كيمياء وجَبْر والخوارزمي وقد استنسخوها: Algorithme, algèbre, alchimie. وفي مجال السياسة، شاعت لديهم كلمة amalgame بمعنى “الخلط المفاهيمي”، وهي موغلة في فصاحتها، تأتَّت من: “عمل الجمع”.
وقد أحصى الباحث المخضرم صالح قَمريش ما يربو على 800 كلمة عربية تتمازج مع لغة موليير وتباطنها، في كتابه: Dictionnaire des mots français d’origine arabe, 2007، ويمثل هذا العدد ضِعف الكلمات الفرنسية المتحدرة من أصول غالية. وحين نُذكِّر بهذا الأمر، لا نحوله إلى شوفينية لغوية أو بكائيةٍ على الماضي.
وتتجلى عالمية العربية ثانيًا في قدرتها على صياغة كل أفعال الكلام الخاصة بالنشاط الدبلوماسي والقانوني، فضلاً عن التفاعلات الاجتماعية اليومية، فقد طورت عربية اليوم معجمها الاصطلاحي وأمدته بعشرات الصيغ والتراكيب والكفاءات اللغوية (والمصطلح لتشومسكي) التي تنجز أفعالاً تواصلية ذات أثر واقعي: مثل الإدانة والإشادة والتهنئة والشجب والتعهد والنأي بالنفس… وقد درسها الفيلسوف الإنكليزي أوستين في كتابه: “عندما يَصير القول فِعلاً” (1964).
وتظهر عالمية العربية أخيرا في استيعابها لسائر المستجدات في مختلف مجالات الحياة المعاصرة بعد الثورة التكنولوجية والرقمية بدءًا من الطب والرياضة، مرورًا بالسياسة والاقتصاد، وصولاً إلى الثقافة والفلسفة والفنون… فما من شيءٍ يظهر في عالم اليوم المتسارع إلا أوْجَدَ له الاستعمال علامة لسانية تربط بينه وبين مستخدميه في الأقطار العربية: يُسمُّونَ به دنياهم ويُضفون المعنى على مراجعها، والتسمية أولى مراحل سُكنى العالم وعقلنته.
والحق أنَّ الصحافة العابرة للقارات ومواقعها الإلكترونية النشطة، المُحَيَّنة باستمرار، هي المحرك الأساسي لهذا التوليد المعجمي، وهي التي أعانت على تسمية مكوّنات المجتمع وأحاسيس أفراده وأفكارهم وأشيائهم المادية. كما أنَّ الفضائيات الأجنبية الإخبارية وما تقوم به من ترجمات آنية على مدار الساعة، لما يحدث في أرجاء المعمورة، ساعد على تسريع عَوْلمة العربية وتكثيف قدراتها الإحالية، حين تصوِّر شؤون الناس، مهما تنوعت أنظمتهم المزية، وتنقل ما يقولونه بلغاتهم الأصلية، عبر الترجمة التي لئن تفاوتت قيمتها، فإنها تظهر جرأتها على استنساخ تَمثلات الآخر إلى القارئ العربي.
عربية اليوم جزء لا يتجزأ من المشهد العالمي ورابية عالية في تضاريس خطاباته، نقلت إلى الفضاء الكوني تصورات رئيسة أثْرَت الرصيد الذهني والحضاري. والاحتفال بيومها – في العالم- هو احتفاء بقدرتها على التجدد والاستمرار، بعد أن أشرفت على الموت بسبب هيمنة الدوارج المحلية ورطانات الأجانب.
العربية في عيدها اعترافٌ بفضلها في نشر دقائق الأدب والفلسفة والدين في ثنايا التراث العالمي. والابتهاج بها وقفٌ لطغيان ثقافة القوة وفظاظة الأمركة وقد فشلت في رصد تحولات هذه اللغة، فظلَّت تصفها بالكلاسيكية، وكأنَّ قرنيْن من التطور المطّرد، اللذين انبجست منهما العربية المعاصرة، لم يمرَّا. الإقرار بعالمية العربية هو اعترافٌ بنسبية الثقافات… وهذا مما لا يُنال بالتمني.