حاوره: إدريس الواغيش
حين أفرج الصباح عن ميعاده الصيفي، كان الشاعر العميد محمد السرغيني واقفا بالباب، ينظر إلى معصم يده اليسرى، متفقدا ساعته السويسرية العتيقة، التي لا تبقي ولا تذر ثانية واحدة من ميعادها.
أشارت عقارب الساعة إلى الموعد تماما، فوصل في هيأة حكيم وقور، ليذكرني بمواعيد لقيطة، لا ملة لها ولا دين. هكذا وجدت نفسي متورطا في حوار طويل وجميل، موغل في أحلام وذكريات خالدة في الشعر والأدب، وأسماء لم يستطع الموت تغييبها عن عالمنا: محمد شكري- أحمد المجاطي- محمد الخمار الكنوني- محمد زفزاف- محمود درويش- أنسي الحاج….، وآخرون لا يزالون يمارسون طقوسهم اليومية بيننا.
مسيرة رجل علم وفكر حافلة بالعطاء، وشاعر يعتبر من الرواد الذين أسسوا للقصيدة المغربية والعربية الحديثة، يبتسم الشاعر الكبير كطفل بريء لم يلوثه نفاق بشر، ويصمت في أخرى كفيلسوف إغريقي قديم كي يتذكر موقفا أو يسترجع أبياتا من الشعر، ليبرهن بالملموس، أن ذاكرته لازالت أقوى من ذاكرة الحمام الزاجل.
عندما نستحضر محمد السرغيني، نستحضر بالضرورة لائحة طويلة من أسماء دكاترة وأساتذة جامعيين وشعراء مغاربة من الجيلين، تتلمذوا على يديه في مدرجات كلية الآداب والعلوم الإنسانية «ظهر المهراز» بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، الأكثر قدما وشهرة بفاس العاصمة العلمية للمملكة كما في المغرب كله، أو مروا منها وتركوا بصمات واضحة المعالم، لن يقدر الزمن على مسحها بسهولة.
أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشاعر المغربي الكبير أحمد المجاطي وأيقونة الشعر المغربي الحديث الراحل/ الخالد محمد الخمار الكنوني، الشاعر عبد الله راجع، محمد الطوبي وآخرون مروا في صمت.
هو عميد الشعراء المغاربة بكل تأكيد، عاش كل التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي عرفها العالم على المستوى الخارجي والمغرب على المستوى الداخلي، منذ الاستقلال وما قبله وحتى الآن، سيرة حالفة بالعطاء، كما أنه وفي نفس الوقت، عايش كل التحولات الفكرية والأدبية وخصوصا الشعرية والتجارب النقدية في العالم بأسره كشاهد إثبات، و أيضا كشريك فعلي وفاعل فيها.
تلقى شاعرنا تكوينا تقليديا في جامعة القرويين بفاس، لكن وبسبب ما بعد زيارته لثانوية مولاي إدريس (lycee moulay idriss)، حيث كانت تدرس الطبقة البرجوازية الفاسية، وبعض رموز الاستعمار وقادته أبناءهم، وأيضا لأسباب أخرى سيذكرها لاحقا في هذا الحوار، ستجبره على السير عكس التيار. ولأنه أيضا يعشق ركوب التحدي، سيتعلم الفرنسية وسيجيدها، وسيقرأ جل آدابها، ليصبح أحد الدعاة إلى الحداثة الشعرية في العالم العربي وأحد رموزها.
يكتب البسيط، ويحمله فكرا صلبا وعميقا يصعب تحديد ملامحه. قد نمر به نحن فلا نعيره اهتماما، لكن هو يصنع منه إيحاءات ودلالات، يصعب حصرها أو حتى فهمها بسهولة أحيانا. هو إذن الشاعر العميد، الذي يسهل الدخول إلى عوالمه، لكن يصعب الخروج منها.
في هذا الحوار/ الإنصات، سنحاول معا تسليط الضوء على بعض هذه الجوانب، وعلى جوانب أخرى من شعره وفكره ورؤيته للأشياء، من زاويته الخاصة والمختلفة عن المألوف. سيتحدث أيضا عن علاقته ببعض الكتاب والقصاصين والروائيين والمفكرين المغاربة والعرب والعالميين، وكيف ينظر إلى الأدب ثم كيف يصنف أجناسه، وأيضا عن موقفه من التجنيس الأدبي بشكل عام. كما سيعرج معنا في هذا الحوار على التعريف بثقافات أخرى، من قبيل « الثقافة الحوشية»،« الثقاة المتوحشة»، شعراء« الكدية» كما سماهم،« أدباء الضياع» في عصور خلت، و كذا«ثورة الزنج» في العصر العباسي.
مع الشاعر العميد محمد السرغيني كان اللقاء، وكان هذا الحوار:
– ماذا لو سألنا عن آخر ما قرأه شاعرنا ؟
* قرأت هذه الأيام رواية «جيرترود» التي كتبها حسن نجمي، وأعجبت بالإطار الذي وضع فيه الرواية، لأنه تكلم باسم شخص آخر، لكن الذي لم يعجبني فيه، كونه تكلم عنها كما لو أنه هو من تعلق بها.
– ربما هو تعلق بها بعد محمد شكري…
* في الوقت الذي كتب فيها الرواية، كانت جيرترود شتاين قد ماتت رحمها الله. في مرحلة ثانية تعلق بكاتبة مكلفة بالشؤون الثقافية في السفارة الأمريكية، وهي من السود الأمريكيين. هذا الجانب لم يعجبني فيه، بصفته رجلا متزوجا، لكن الإطار الذي وضع فيه الرواية أعجبني كثيرا، بحكم تخصصه، لكن ما ادعاه من دون ذلك، فهو مخالف للحقيقة. هي ( جيرترود) أقامت في طنجة لمدة قليلة فقط.
– جاءت تبحث عن محمد شكري …
* هذا من الكذب الصراح …(يضحك)
– حضرت حفل توقيع رواية« جيرترود» بالمركب الثقافي بفاس، مع مجموعة من النقاد، كان من ضمنهم الناقد نجيب العوفي وآخرون…
* كل ما يمكنني قوله، هو أن جيرترود شتاين كانت تعيش في أمريكا، في الوقت الذي انضمت إلى مجموعة من الأدباء، الذين كانوا يسمون أنفسهم ” أدباء الضياع ” : شعراء، كتاب، روائيون، رسامون ومسرحيون، لم تعترف بهم البيئة الأمريكية، فرحلوا كلهم إلى باريس.
– ماذا فعلوا في باريس؟
* كانت الوجودية منتشرة في فرنسا يومها، فشاع ذكرهم. وذهبت هي (جيرترود) إلى باريس، لكن لم يلتفت إليها الرأي العام القارئ الفرنسي. فبدأت تتصل بمن يعجبها من المشاهير: بيكاسو وشعراء العبث مثل« أبو لينير» وغيرهم. لكنها لم تنل ما كانت تريد الوصول إليه، ومن ثمة لم يذكرها أحد.
– هل يمثل أدب محمد شكري، الامتداد الطبيعي ل« أدب العبث» في المغرب؟
* حينما أريد أن أتحدث عن « الأدب المفبرك» أو «الأدب المصنوع » أمثله في محمد شكري
– كيف …؟ هل لأنه عاش حياة بوهيمية مثلا ؟
* لا…، بوهيمية فيما بعد. شكري يمكن أن نقول، بأنه ينتمي إلى «الأدب الحوشي»
– « الأدب الحوشي»…، نسبة إلى ماذا ؟
* نسبة إلى الحاشية، الحوشي يعني مهمش، هذا حوشي بنفسه. في اللغة الفرنسية نقول الثقافة الوحشية (la culture sauvage)، كل أدب من آداب الأمم، له ثقافة وحشية وثقافة غير وحشية أو مستأنسة. الثقافة الحوشية هي التي تهتم بالأشياء الجانبية، في أدبنا وثقافتنا المعاصرة.
أعطيك مثلا: في العصر العباسي كانت الجهة المؤهلة أكثر هي الثقافة الكبيرة: العلماء، الأدباء، رجال الدين، الشعراء والفلاسفة، وأيضا نجد بجانبهم مجموعة من شعراء« الكدية»، هؤلاء الشعراء حاولوا أن يشتهروا فلم يفلحوا، فبدؤوا يسبون كل شيء: الوزراء- الشعراء الممتازين- الكتاب إلخ…، هذه تسمى ثقافة حوشية.
في الفرنسية لدينا مثال بطل رواية «البؤساء» لفكتورهيغو، وكاتب رواية « le papillion» والتي بيع منها عدد كبير من النسخ في العالم، وعندنا مثيل آخر له مدفون هنا في المغرب بمدينة العرائش، اسمه جان جينيه (يضحك). الثقافة الحوشية تلعب دورا مهما، لكن أفعالها وقرائنها تعود إلى أدب اللامعقول أو أدب العبث. أنت عندما تكتب الشعر تقف من ورائك فكرة، لنصرة الحداثة والتبشير لها، شريطة أن تكون في صالح الإنسانية والإنسان بشكل عام.
– ألا تتقاطع الثقافة الحوشية، مع ثقافة الشعراء الصعاليك ؟
* الصعاليك ينتمون أيضا إلى الثقافة الحوشية نعم، لكنهم وصفوا الوسط الذي كانوا يعيشون فيه، ولم يتجاوزوه. هم صعاليك حوشيون ما في ذلك من شك، لكن (حوشيتهم) جاءت كرد فعل على تهميشهم، لأنه لم يعط لهم الاعتبار الذي يليق بهم.
– يقال أنهم كانوا من السود ….
* بالنسبة لصعاليك العرب الأمر مختلف، فهم إما عرب عاربة أو عرب مستعربة، لكنهم ليسوا من السود، وإن تغيرت بشرة أحدهم، فلأنه فقط غير مكان إقامته أو سكناه، من بلد إلى آخر فيه صحراء (يضحك). لكن منهم واحد فقط فيه أنفة العرب، إنه الشنفرى الذي ينتمي إلى قبيلة طيء. السود كانوا في العصر العباسي، وقاموا بثورة سميت ب« ثورة الزنج»، ثاروا فيها على الحكم، بحجة عدم قيامه بالواجب إلخ، وساعدهم في ذلك القرامطة. والشنفرى معروف بقصيدته الشهيرة التي سميت لاحقا ب« لامية العرب»، والتي تقول:
أقيموا بني أمي، صدور مطيكم # فإني، إلى قوم سواكم لأميل !
فقد حمت الحاجات، والليل مقمر # وشدت لطيات مطايا وأرحل
ولي ، دونكم، أهلون: سيد عملس # وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
هم الرهط لا مستودع السر ذائع # لديهم ولا الجاني بما جر يخذل
– هذا الجيل لا يحفظ الأشعار، هل هي ضريبة التكنولوجيا الجديدة؟
هذه من أخطاء التكوين، وأخطاء المبدع أيضا. فليس كل جديد جديدا، وليس كل قديم قديما. دائما تأتي بعض الفلتات التي لا يجود بها الزمان إلا لماما. مثلا المتنبي يقول في هذا المنحى، الذي ذهب إليه الشنفرى تقريبا ما يلي :
إذا ترحلـت عــن قــوم و قــد قــدروا # أ لا تـفـارقـهـم فـالـراحـلـون هـــــم
إذا رحلت عن قوم، وبإمكانهم أن يعدلوك عن الرحيل، ولم يفعلوا. فهم الراحلون وليس أنت.
-المتنبي كان شاعر رؤيا، وليس شاعر رؤية، أليس كذلك ؟
* حينما تقول رؤيا، تقول الحكمة، والمتنبي كان بشرا يخطئ ويصيب مثل باقي البشر، رجل متعلق بالحياة، يحب المال، ومن يملك المال هو صاحبه…
– الآن سأدخل معك إلى عالم أنت المتعمق والمتخصص فيه. هل للصوفية علاقة بالتقدم في السن، أو الوصول إلى مرحلة الإشباع ؟
* لا…، مبدئيا الصوفية صوفيات، أنا أعتبرها منهاجا في السلوك وليس روحيا. بمعنى آخر، منهاجا في السلوك المادي وليس الروحي. وهذا المنهج لا تجده إلا عند صوفي واحد هو ابن عربي، والباقي (غير الشطيح والرديح). هذا الرجل لم يبتدع مذهبا وليس له مريدون، ولا عنده مكان يشطح فيه.
كان يبتعد عن الناس ويتأمل في الدنيا، ويطرح الأسئلة الكبرى: لماذا هذا الانحراف؟ لماذا لا يوجد إنسان كامل، يغير هذا الانحراف ولو بالقوة ؟ لم لا ؟.
– البعض يرى بأن أدونيس كان صوفيا رغم علمانيته، أليس كذلك؟
* صوفي في كتابة الشعر نعم، لكن علماني حينما ذهب إلى أوروبا للدراسة. الشاعر الذي أجد هواي عنده وأتفق معه، وكأنه سبقني إلى ما كنت أود كتابته هو أنسي الحاج. أرجو أن تبحث عن كتبه وتقرأها لترى كيف ينظر إلى الأشياء. لم يوجد حتى الآن في الوقت الراهن في العالم العربي، شخص حاكم العالم العربي في شخص لبنان، محاكمة عادلة كما فعل هو، حاكمه محاكمة دقيقة كسياسي دقيق. لم يحاكم جمال عبد الناصر فقط، بل حاكم الرؤوس المسئولة، امبريالية الشرق مقابل امبريالية الغرب. فلو كان هؤلاء يريدون لنا ما يريدونه لأنفسهم، لما وقعت كل هذه المعضلات التي يعاني منها العالم اليوم، من إفريقيا الشمالية إلى مصر وسوريا، إلى ما يقع في أوروبا الآن، وتحديدا في أوكرانيا.
كانوا كلهم يتدخلون في الشرق العربي، الآن تحاول أمريكا تهريب أوروبا من الطمع الروسي، خصوصا بعد إصدار روسيا قرارا بضم شبه جزيرة «القرم»، وبعض المناطق من شرق أوكرانيا إلى أراضيها. هذا لن يمر في صمت طبعا ولن يسكت عنه الغرب، وستكون له نتائج وخيمة على مستوى العالم، وتحديد العلاقات بين القطبين على أسس جديدة.
أنسي الحاج في أحد دواوينه، يتنبأ لهذه القضايا بشكل صريح. أما أدونيس فيطلع وينزل مع موازين القوى على هواه، وإن كان شاعرا كبيرا ما في ذلك من شك.
– لنعد إلى الأدب، حتى لا تذهب بنا السياسة بعيدا، كيف ينظر الشاعر محمد السرغيني إلى التجنيس الأدبي، وظهور أجناس أدبية جديدة ؟
* بالنسبة لي، كل ما تكتبه من دواخلك فهو أدب، يمكن أن تكتب قصيدة جميلة جدا من بيت أو بيتين فقط. فالقدماء كانوا يعترفون أيضا بقصيدة البيت الواحد. فيما يخصني أكتب انطلاقا من واقع معين، أفضح عوراته، وأشيد بالأشياء الجميلة فيه. قد يكون مجموع ما يتوفر في قصيدة، تجده أحيانا في بيت واحد، الفرق فقط في الإحساس بين شاعر وآخر. المسالة هنا تتعلق بشعورك الخاص، وأحيانا يضطر الشاعر إلى تغطية ضعفه بالإطالة والتكرار.
– غارسيا ماركيز كان يكتفي بالنساء والويسكي، حين لا يجد ما يكتبه…
* هذا لا أثر له بالنسبة إلي، لكن أحيانا يقع إجهاد فكري، وهذا أمر وارد عند كل مبدع، كيفما كان شأنه.
– كيف تنظر إلى الشعر كمفهوم، بين قديمه وحديثه ؟
* كل من حاول أن يحدد مفهوما للشعر، من القدماء أو المحدثين فهو خاطئ، لأن الشعر واسع الأرجاء، قابل لاحتواء كل ما يريده الإنسان. الشعر لا يتوسل إلى اللغة فقط، الشعر يتوسل إلى جميع الأحاسيس التي يتوفر عليها الإنسان، ومنها الحواس الخمس. عندما تصف الشجرة، فأنت تصفها بحاسة البصر، وحينما تريد أن تصف لحنا، فأنت تستعمل الحاسة السامعة. لكن من مزايا الشاعر أنه يغلب الحاسة السادسة التي هي الحدس(l’intuition)، لأنه يريد أن يستبطن الأشياء، أن يدخل إلى عمقها.
في هذا المجال يمكن أن نقول بأن صديقنا المشترك القاص أحمد بوزفور ليس كاتب قصة، بقدر ما هو شاعر، أحب من أحب وكره من كره. وشعريته فوق لغوية، لأنه يختار اللحظات التي نمر عليها مرور الكرام، وقد لا تثيرنا فلا نلتفت إليها، لكنه هو يلتقطها ويقدمها لنا، لذلك فالشعر لغة اللغات.
– ماذا تقصد هنا بلغة اللغات؟ ما هي طبيعتها؟
* هي ما ذكرت سابقا من حواس، إضافة إلى الحدس كحاسة سادسة. وهذه الأشياء لا يمكن أن يصل إليها المبدع وهو في بداية مشواره، كلما تطور في الكتابة، إلا وازداد إحساسا بها، وتمرنا عليها.
الخطر الكبير الذي يواجه المبدع في الوقت الراهن، وخصوصا في الشعر، هو أنه وقبل أن يبدأ في الكتابة، يضع النموذج أمامه، ثم يبدأ في تقليده، علما بأن النموذج متأخر عن العملية الشعرية، وليس متقدما عليها.
– كما يقع في الفنون التشكيلية مثلا؟
* بشكل ما صحيح نعم، بعض هؤلاء يضعون الأشياء أمامهم، ثم يبدؤون في رسمها وتقليدها، هؤلاء لا فضل لهم ولا مزية. في الإبداع أنت تضع أنموذجك أمامك في التو واللحظة، وتنشغل في تصويره. هذا النموذج قد يكون منك أو من وسطك، أو من القضايا التي تسير على هذا النمط.
القصيدة قابلة دائما للمراجعة كي تتغير، والتغيير هنا يحمل رؤية جديدة، وكانت عند القدماء أوتوماتيكية.
– هل تقصد الحوليات ؟
* يمكن أن أكتبها في الصباح، وأراجعها في المساء، وهذه المراجعة تساؤلك: هل كنت في مستوى الكتابة لأول مرة ؟. ما يكتب الآن في الغالب له بعد تجاري مقلق. قد يكتب الديوان في 1950 مثلا، ويعاد طبعه لظرف معين، ثم يضيفون إليه أشياء كثيرة بعد ذلك، تكون مفتعلة لأسباب تجارية في الغالب. هنا يكون المؤلف، بوعي منه أو بدونه، قد جرد النص الأصلي من فطريته الأولى التي كان عليها. إذا قمت بالمراجعة وهذا من حقك طبعا، يجب عليك أن تحافظ على هذه الحالة الفطرية، التي كان عليها النص في أول مرة.
– ظاهرة التقديم للكتب : قصة ، رواية ، شعرا وحتى نقدا، ما رأيكم فيها ؟
* التقريظ كله كذب، وكثيرون يتسابقون إلى طبع أو نشر عمل، من أجل الحصول على جائزة. من طبيعتي أن لا أقوم بمقدمات تقييمية، لأنه ليس من حقي. كما أنه ليس من حقي أن أطلق الكلام على عواهنه. لكن من حقي أن أقول ما قرأته وشاهدته وعاينته.
أنا وأنت نعيش في بيئة مغربية موبوءة، آهلة بالمشاكل، تقدم لك مجموعة من الصور التي تتقزز لها مشاعر الإنسان. أين ما ضربت الأقرع يسيل دمه، لأنه ليس له شعر يحميه. لنحاول أن نتوغل فيها، ونكتشف مكامن القبح والجمال فيها. الإنسان الذي يتبنى قضية تحقيق الإنسان كمبنى أو معنى، أبيض أو أسود. وهذا يقودني إلى فكرة: محاولة كشف وجوه القبح ومكامن الحسن فيها، وإن كان من سوء الحظ أن هذه الأخيرة قليلة، سواء بالنسبة إلينا كمتخلفين أو بالنسبة إليهم كمتقدمين.
الإنسان عامة نوعان:
1- القوي الذي يتصرف بقوة التملك، ويتمسك بقوة التملك. مثل الجرافة، إذا ما اعترض أحد طريقها تمحوه.
2- الضعيف الذي يتحسس الطريق، التي يحاول من خلالها الانتقال من الضعف إلى القوة. أنا ضعيف مثلا، لأنني أوجد في بؤرة ضعيفة.
– ما هي مواصفات الضعف والقوة هنا ؟
* من أهم مواصفات الضعيف أنه يعيش عالة على القوي، وهذه الصفات هي أساس الأمراض النفسية التي تصيب الضعيف، من تقاعس وتبعية وسكون وتخاذل. المفروض فيه أن يحول ضعفه إلى شجاعة وتخاذله إلى مواجهة، وإذعانه إلى عصيان. لكن كيف؟. تبقى هنا مشكلة أخرى حيرت الفلاسفة، من يضمن لي أن هذا الضعيف إذا ما تحول إلى قوي أن لا يتصرف مثله أو أكثر طغيانا؟، فيطغى ويتجبر ويتكبر؟. كانت مجموعة من الحضارات تبشر بالإنسان الأعلى (superman) كما عند نيتشه، حينما تأتيه الفرصة، يصير أكثر بطشا وجبروتا وطغيانا من الذين كانوا من قبله. المشكلة هنا في تبادل الأدوار بين القوي والضعيف.
طيب، إذا كان الأمر كذلك، فالشعر ليس عملا عاطفيا، الشعر ممارسة حيوية للحياة، وقوة كبيرة جدا، لتبصير الضعيف بضعفه، ونقد قوة المتكبر.
– هل تصبح القصيدة يوما قوية بهذا الشكل ؟
* كّتاب القصيدة في العالم العربي وغيرهم في عوالم أخرى، لم يفلحوا بعد في الانتقال إلى المهمة المنوطة بالشاعر، وهي تغيير الكون إلى ما هو أفضل، وتخليصه مما يسيء إليه. هذه المهمة يتحملها الشعراء، لكن الشعراء الصادقون. ستقول لي أننا نعيش في بيئة متخلفة، و هذا فوق طاقتنا.
دائما وأبدا، الأفكار تأتي بالمستحيل. بوذا جاء بالبوذية، وهي نظام اجتماعي و أخلاقي، يدعو إلى ممارسة الحياة بشكل عملي وواقعي، كما عند الشاعر نفسه. التقليص من الوجدانيات يعطي فسحة كبيرة للاهتمام بالعقلانيات. لأنه بصفتك تنتمي إلى هذا العالم، تسأل نفسك: ماذا فعلت فيه، وكيف فهمته؟.
كل النظريات التي تقول بالشعر الرومانتيكي (الغراميات- الأنانيات) ينبغي على الإنسان التخلص منها. لا أخفي أن الإنسان تكون له رغبة أحيانا، في أن يحب امرأة أو تحبه ويتغزل فيها، فعبرها قد يستحضر فترة فكرية يعيشها، كما يعيشها الإنسان بصفة عامة.
– أنتم تذكروني هنا بكتاب روايات الفروسية، وأخلاق النبلاء…
* ما كتبه هؤلاء لم يلامس من الرواية غير العنوان. الفروسية ليس أن تركب فرسا أو تشارك في حروب، الفروسية تريد أن تشير إلى طائفة تسمى الفروسيين، ويمكن للإنسان أن يكون له رأي عام فيما يتعلق بحالات الإنسان ككل. ما قرأته من روايات الفروسية، فيها حديث عن أناس يركبون الجياد، ويشاركون في الحروب فقط.
– طيب، وماذا عن القصة القصيرة جدا، كجنس أدبي جديد؟
* القصة القصيرة جدا، جمالها لا يأتي من قصرها، لكن من الذي التقطها. هذا الجنس يتميز بخاصية كاتبها، الذي من المفروض فيه أن يتميز بعين لاقطة. الأدب والشعر عموما، يفهم من حيث مواضيعه، لا من حيث هيكله.
– إذن ما قيمة كل هذه “القوانين” التي وضعوها للقصة القصيرة جدا، من حيث الدهشة والقفلة والتكثيف إلخ؟
* ليس ضروريا كل ذلك، يمكن أن أكتب نصا لاشيء فيه من كل ذلك، وأسميه قصة قصيرة جدا
– هناك من لا يعترف بها أصلا…
* الأدب في مجمل تفريعاته، وجد من أجل أن يخدم الإنسان. لأن الإنسان هو المبتغى في الأول والأخير، وهذا ما قلته في حوارات سابقة لي، فكل محاولة لعزل أنواع الإبداع عن بعضها البعض، هو ظلم لها. أنا أقرأ لوحة مثلا على أساس أنها شعر، بكل ما تحتويه من ألوان ورسوم وخبطات، ودوائر ومربعات وأشكال هندسية وفنية.
– كيف تقرأ هذه الحالة في الفن التشكيلي: التجريد ( l’ art abstrait)؟
* إذا كنت صاحب حدس أو نظر ثاقب، تستطيع أن تقرأ ما تشاهده. قلت لأحد الفنانين التشكيلين مرة في أحد المعارض، هناك ما يسمى بجمالية القبح. كل المنظورات، المرئيات، المحسوسات تخضع لقانون جمالي، يكاد يجتمع عليه الناس. لكن يبقى أن هناك جانبا مغفلا، ليس كل ما وصلنا من الماضي حقائق. يمكن أن تكون الحقائق المعاكسة لها هي الصواب بعينه. فالموازين التي وضعت لهذه الأشياء، من المحتمل أن يقف أناس ضدها، ويقترحون أشياء أخرى بديلة، وقد تكون جيدة.