في غمرة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، الذي يخلدها لسانا متميزا للتموقع الحضاري عبر التاريخ، والتنوع الثقافي الإنساني، ولحاما قويا لأبناء وبنات الوطن العربي الكبير، لمست حاجة إلى التدقيق في بعض أسماء وعبارات التنوع والوحدة والتخطيط والسياسة اللغوية الجديدة، التي أصبحنا في حاجة ملحة إلى إقرارها وتبنيها، من أجل ولوج منظومة الفكر اللسانية والمعرفية الجديدة، الحاملة لمفاهيم وآليات جديدة، لا يحسن خلطها بمسميات وتصورات قديمة. إن هذا الخلط يحدث أضرارا في تمثل العلوم الجديدة، والتمييز بين الأزمنة المعرفية، مما يعيق إعمال التراكم والتقدم العلميين على السواء.ومما يجدر ذكره في هذا الباب الإصرارُ على استعمال مسميات مثل ‘الفصحى’ و’العامية’ في وصف تنوعات اللغة العربية، والاقتصار على هذه الثنائية، وربطها بثنائية ‘اللغة’ و’اللهجة’. والحقيقة أن هذه الاصطلاحات لم تعد تصلح للتعبير عما هو مطلوب من تمثل وتحليل لظاهرة تنوع اللسان العربي (أو الألسنة الأخرى)، بل تجرنا إلى مشاكل أيديولوجية وسياسية مغلوطة، لا تتماشى والوصف العلمي المقارن المحايد لتنوعات اللسان. إن الأمر لا يتعلق بثنائية لَسَنِيّة (أو ازدواجية)diglossia ، بل هي تعددية لَسَنية pluriglossia ، يمكن تحديد معالمها ووظائف مكوناتها المتعددة المتفاعلة، وخصائص كل نظام من الأنظمة الموظفة لسانيا ومعرفيا. فوصف تنوع اللسان العربي (أو غيره) يقتضي معاينة كل وحدة تنوعيةlanguage variety يشملها، أو أهمها على الأقل. وقد سبق أن وضعتُ مصطلح ‘نوعة’ (الوحدة من النوع والتنوع) مقابلا للمصطلح الإنجليزي. وتنفرد النوعة اللغوية بسمات ووظائف مميزة محددة، طبقا لما درجت عليه التحاليل منذ المقال الرائد للعالم اللساني المجتمعي الكبير تشارلز فركسنCharles Ferguson عن الازدواجية اللغوية سنة 1959. و في كتابي عن العدالة والنظامة والتخطيط (القسم الثالث، دار كنوز 2019)، اقترحت أن نعتمد سبع (7) نوعات للغة العربية، تشمل: (أ) النوعة المعيارية (العصرية)Standard Arabic ، و(ب) النوعة الدارجةColloquial ، و(ج) النوعة الوسيطةMiddle ، و(د) النوعة التراثية (المحافظة)Classical ، و(ه) النوعة الاصطلاحية المختصةSpecialized ، و(و) النوعة المتعددة المراكزPluricentric ، و(ز) النوعة الزجلية أو النبطية. وتتميز كل واحدة من هذه النوعات بخصائص نطقية ونبرية وصرفية وتركيبية ودلالية وجغرافية وثقافية تمايز بينها، رغم وجود قواسم مشتركة. وقد بينتُ بتفصيل عدم ملاءمة تبني الازدواجية منطلقا لوصف تنوع اللسان العربي. وسبق لي في كتاب السياسة اللغوية في البلاد العربية (دار الكتاب الجديد 2013) أن حللت محاولات استغلال هذه الازدواجية المزعومة سياسيا وأيديولوجيا. وفصلت الكلام في كلا الكتابين عن التوصيف المقامي والثقافي والحقوقي والسياسي لكل نوعة على حدة. وإلى جانب وصف الألسن من منظور التنوع diversity ، وأبعاده في المجتمع والبيئة والممارسات الفردية والجماعية، هناك حاجة إلى رصد أبعاد الوحدةunity ، لأن التواصل يتأسس عليها، كما تتأسس السياسة والدولة العصرية. وتبرز هنا عدد من المفاهيم والتصورات الجديدة، التي تميز اللغة (النوعة) ‘المعيارية’standard (التي تدعى عادة ‘الفصيحة’ أو ‘اللغة’)، عن النوعات غير المعيارية non-standard (خاصة الدارجة، التي تدعى ‘العامية’ أو ‘المحكية’). وهذا المفهوم له وضع في التخطيط والسياسة اللغوية، ما دامت اللغة الرسميةofficial (أي لغة الدولة) معيارية، ولا بد أن تخضع لضوابط ومعايير، حتى تكون لغة القوانين والتشريعات، ولغة التعليم، الخ. وما دامت هذه النوعة هي لغة المراسلات الرسمية، ولغة مخاطبة الجمهور من الناس عندما تختلف لهجاتهم، فإنها النوعة التي تخدم وحدة اللسان، وليست الدوارج كذلك، الخ. وإذن يصبح لكل نوعة وضع في التخطيط اللغوي. فالنوعة المعيارية تخدم الوحدة بالأساس، والنوعات غير المعيارية تخدم التنوع بالأساس، ولا يمكن الخلط بين وظائفها وأدوارها متنا ووضعا.والعربية المعيارية جامعةkoinè في القطر العربي الواحد (وقد تتنوع من قطر إلى قطر)، وهي لسان جامع في الوطن العربي الكبير. وهذا وضع اللغات التي تدعى باللغات المتعددة المراكزpluricentric ، لكونها توجد في أقطار مختلفة، وفي بيئات مختلفة، وهي محكومة بدساتير وقوانين مختلفة، وهي موجودة في الفضائيات الدولية والشابكة والمؤسسات الدولية، الخ، أي خارج الأقطار. وهذا يملي على الدول ذات اللسان العربي التنسيق من أجل وضع سياسة للمحافظة على صفة اللغة العربية الجامعة، أو صفتها المعيارية عموما.وعطفا على ما ذكر، نحتاج إلى تصنيف متكلمي اللغة العربية، بحسب كونهم يتكلمونها بالفطرة، أو هم فطريونnative speakers ، أو غير فطريينnon-natives . فالفطري من نشأ في بيئة عربية (صغيرة أو كبيرة) واكتسب إحدى النوعات العربية (أو مزيجا منها)، فتلقاها في أسرته أو مع والديه (أو أحدهما) أولا، أو في بيئته العربية منذ نشأته الأولى، فتكون العربية هي لغته الأم، أو لغته الأولى. وغير الفطري لا يُفْطَر عليها، أو لا ينغمس في البيئة التي تتكلمها منذ ‘لَغْوِه’ الأول. فتكون العربية عنده لغة ثانية أو ثالثة، الخ. إلا أن انتشار اصطلاح ‘الناطق’ بالعربية والناطق بغيرها لا يعبر عن نفس المفهوم النفسي-البيئي الذي يعبر عنه مصطلح الفطري. وهو كغيره من المصطلحات التي أسلفنا فيها القول يبعدنا عن التوصيفات الدولية المتداولة التي تسهل المقارنة والبحوث والتطبيقات اللغوية والمعرفية المواكبة للغات الأخرى، كما تروم الترجمة والاصطلاح الدقيقين.