بقلم :الدكتور الحبيب بنعدية
بعد مسار التعريب في الدراسة الإعدادية والثانوية الذي قاده المرحوم الحسن الثاني في الثمانينات من القرن الماضي، والذي كان يفترض أن يكون بداية لتعريب شامل وكلي للمواد العلمية ليكتمل بذلك الاستقلال الثقافي للبلاد، وننطلق كباقي الدول المستقلة للنهوض بمجال التربية والتكوين والتحصيل العلمي بلغتنا الوطنية لنتبوأ المكانة اللائقة بوطننا ومجتمعنا وتاريخنا وحضارتنا، فإذا بهذا المسار يتوقف عند الباكالوريا ويجد التلميذ والطالب نفسه في وضع صعب للغاية ألا وهو ضرورة التأقلم مع لغة أجنبية مختلفة تماما مع اللغة الوطنية التي درس بها في التعليم الإعدادي والثانوي الشيء الذي يعيق استيعاب العلوم والمعرفة استيعابا عميقا يُمَكّن من التألق والإبداع، فاستمر التدني على المستوى الوطني في التربية والتكوين.
وعوض أن يكون التشخيص سليما للخلل في المنظومة التربوية بأكملها، تتعالى أصوات هنا وهناك، عن جهل أو قصد لتضع الأصبع عن السبب الرئيسي والأساسي عند هؤلاء للكارثة التعليمية والتربوية والتي تضعنا في مؤخرة الأمم في مجال التعليم ألا وهي التعريب، والحل عندهم واضح، هو إعادة فرنسة المواد العلمية في كل مراحل التعليم وبهذا نلتحق سريعا بركب الدول المتقدمة.
وإذا حللنا هذا الطرح ولو بشكل سريع تبدو عوراته جلية لا تحتاج لكثير من الأدلة لإبطاله ودحضه:
- كل الدول المتقدمة أو الصاعدة في جميع أنحاء العالم تدرس كليا بلغتها الوطنية في جميع مراحل التعليم ولا تعيقها لغاتها الوطنية التي لا تتعدى في كثير من الأحيان حدودها الجغرافية من تبوأ مقاعد متقدمة في ترتيب الدول من الناحية العلمية والمعرفية، ومن الأمثلة:
هولندا ، تركيا، البرتغال، كوريا، اليابان، إيطاليا، إسبانيا، روسيا، رومانيا،الصين،ألمانيا،النرويج، السويد،إيران،أوكرانيا،أيسلندا…
- اللغة العربية مصنفة ضمن الست لغات العالمية المعتمدة دوليا في الأمم المتحدة لانتشارها وتاريخها وحضارتها.
- القدرة الاستثنائية للغة العربية على استيعاب العلوم والمعارف، وقد أثبت هذا قرابة 1000 سنة من العصر الذهبي للحضارة الإسلامية التي سادت العالم في مختلف العلوم المعارف باللغة العربية.
- استحالة الإبداع والتألق والتقدم بدون التدريس باللغة الوطنية لأنها تساهم في الاستيعاب العميق للعلوم والمعارف وهذا ما أكدته معاهد الدراسات والبحوث العالمية وما يؤكده الواقع المعاش.
- المراتب المتأخرة للدول العربية من الناحية العلمية والإبداعية، رغم تدريس هاته الدول المواد العلمية لطلبتها باللغات الأجنبية منذ الاستقلال.
- الاستدلالات كثيرة لكننا نقول باختصار: إن الخلل ليس في تعريب العلوم وإنما في المنظومة التعليمية والتربوية بأكملها والتي يجب تقييمها وإعادة النظر في مناهجها وتركيبتها وبنيتها، وإعطائها المكانة اللائقة بها، وجعلها في مقدمة الأولويات وتوفير كل الإمكانيات المادية والبشرية التي تحتاجها، ودراسة المنظومات الناجحة في العالم لاقتباس ما هو صالح لبيئتنا ومجتمعاتنا وخصوصياتنا، وقطعا سيكون التدريس بلغتنا الوطنية من ضمن الإصلاحات الجذرية مع الاهتمام بالانفتاح الإيجابي على العالم بعلومه وتجاربه و لغاته وحضاراته.
لكن مع الأسف الشديد، الملاحظ في واقعنا أننا لا نسير في هذا الاتجاه بل على العكس تماما، فلا نرى إلا قرارات ارتجالية وإجراءات ترقيعية لا تشخص الداء ولا تصف الدواء، ومن بين القرارات الغريبة التي ظهرت في السنوات الأخيرة، إحداث ما يسمى بالباكالوريا الدولية ثم السعي لتعميمه تدريجيا.
حاولت أن أفهم هذه التسمية، فسألت التلاميذ والأساتذة عما هو دولي في هذا المسلك الذي يوحي في ظاهره بامتياز ما عند المنخرطين فيه يؤهلهم لمسارات متميزة على الصعيد الدولي، فقيل لي أن هذا المسلك هو نفسه الذي كان يدرس قبل تعريب العلوم في الثانوي أي المسلك الفرنسي ففهمت حينئذ أن التسمية ذكية لرفع حرج ما، أو دفع احتجاج ما، أو بالأحرى تجنب تسميته التسمية الصحيحة ألا وهي : المسلك الفرنسي للباكالوريا في انتظار الفرنسة الشاملة على الصعيد الوطني، وهذا في حد ذاته تحايل على التلاميذ وأولياء أمورهم يجعلهم يُقبلون ويتسابقون على وَهم و سراب.
إننا من باب الغيرة على هذا الوطن ومن باب التطلع لتقدمه ورقيه وتبوئه المكانة اللائقة بتاريخه وأمجاده وحضارته، وبدون تعصب أو عصبية، وارتكازا على الدراسات العلمية العالمية والدولية المعتبرة وأخذا بواقع الحال في كل الدول المتقدمة نقول:
لقد آن الأوان لكي نراجع منظومتنا التربوية جذريا ومن الأساس، وأن تكون لغتنا الوطنية محور التعليم في كل أسلاكه ومراحله منفتحين على العالم بلغاته وعلومه المختلفة وألا نستمر في التشخيصات الخاطئة والحلول الناقصة وألا نعود لفرنسة ما عُرًب من التعليم لأننا سنعمق الجرح ونطيل أمد الكارثة التعليمية في بلادنا.
من هذا المنطلق، نتوجه إلى كل الغيورين على هذا الوطن بكل انتماءاتهم ومشاربهم وتوجهاتهم أن يَتحدوا على أمر لا يجوز الاختلاف فيه ألا وهو المصلحة العليا للوطن والتي لا تتم إلا بمنظومة تربوية وتعليمية عصرية، متقدمة منفتحة أساسها ومحورها القطع النهائي مع العبث اللغوي التعليمي الذي نعيشه واعتماد لغتنا الوطنية في كل مراحل ومسالك التدريس.