ما موقع اللغة العربية في التعليم المغربي؟ وما التحديات التي تواجهها باعتبارها لغة مُدَرَّسَةً ولغة للتدريس؟ وهل مازالت قادرة على حَمْلِ المعرفة ومُوَاكَبَةِ رُوحِ العصر وتدريس العلوم بها؟ وهل يمكن إنجاح التعليم المغربي والارتقاء به بلغات أجنبية كما تُدَنْدِنُ بعض الدعوات النشاز التي تحاول كلّ مرة طَمس المشترك اللغويّ للمجتمع المغربيّ؟ وماموقع اللغة العربية ضمن هذا الإرتقاء؟ ثم ما الإشكاليات التي تواجه إنجاح التعليم والتعلم باللغة الأمّ، اللغة العربية؟ ما السبيل إلى تكوين متعلم متمكّن من اللغة العربية قادر على اكتسابها قراءة وكتابة؟ وما السبيل إلى النهوض باللغة العربية في واقع التجاذبات بين الهوية والتنمية؟ وقبل كلّ هذا وذاك؛ أيّ تعليم نريد، وبأيّ لغة؟ هل نريد تعليما ذا جودة ينقل بلدنا من درك التخلف إلى عِلِيّ التقدم؟ أم أنّ المراد تقطيع الوقت، لإبقاء الوضع على ماهو عليه من خلال المشاريع الفرانكفونية المنذرة للرداءة والفشل؟.
للإجابة عن هذه الأسئلة، ومحاولة فهم الكثير مما يجري حولها، نظّم المجلس العلمي المحليّ لبركان، والائتلاف الوطنيّ من أجل اللغة العربية، بالتعاون مع المديرية الإقليمية للتربية والتكوين ببركان، والمركز الجهوي للتربية والتكوين بوجدة، الندوة الوطنية للغة العربية في نسختها الرابعة في موضوع “الاختيارات اللغوية في التعليم المغربي: الواقع والرهانات”، بمشاركة ثلة من البَاحثين المُتخصّصينَ في مجالِ اللغةِ، وحضور ثلة مِنَ الأَسَاتِذَةِ والطلبة الباحثين، وكل المهتمين بِالشّأنِ الهُوَياتِيِّ اللغَوِيِّ، وَذَلِكَ يوم السّبت 25 مارس 2017 عَلَى السّاعَةِ التاسعة صباحا بالنادي الثقافي لملوية أبركان.
بعد تلاوة آيات بيّنات من الذّكر الحكيم بلسان الأستاذ إبراهيم سغروشني، افتُتِحت أشغالُ الجلسة الافتتاحية، بكلمة السيد رئيس المجلس العلمي لبركان: د.محمد حباني؛ مشيرا فيها إلى أن اللغة العربية تعيش مأساة حقيقية في المدارس المغربية، جراء ما تعيشه من تحديات ما نلاحظه من التداخل اللغوي في المدرسة؛ وهو ما يعكسه الدروس التي تقدم بالدارجة المغربية تارة، وبالفرنسية تارة أخرى، بالمزج بينهما تارة ثالثة.
ليأخذ الكلمة بعده مباشرة رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية: الدكتور فؤاد أبو علي، أشاد من خلالها بموضوع النّدوة، معتبرا إياه سُنَّةً سَنَوِيةً لمناقشة موضوع لغوي له راهنيته، ومناسبة لوضع واقع اللغة العربية في بوصلة الانتماء، وأن ما تتعرض له لغة الضاد من قبل لوبيات الهدم والتشظي، يجعلنا نقف وقفة تأمّل لمحاسبة الذات، ودورنا في النهوض والارتقاء بها، لأنّ العجز ليس في اللغة العربية وإنّما ابتليت بأهل عاجزين.
من جهته تحدّث المدير الإقليميّ للتربية الوطنية: الدكتور عمر علالي في كلمته عن بعض المشاريع التي يعتزم المجلس الأعلى للتربية والتكوين القيام بها للنهوض باللغة العربية، كل ذلك في ظلّ ما تعانيه من تهميش، كمشروع تطوير اللغات، تحدي القراء من خلال السعي إلى الرجوع إليها لاكتساب ملكة اللغة العربية.
وفي السياق ذاته جاءت كلمة مدير المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين: الدكتور عبد الله بوغوتة، والتي أشار من خلالها إلى أنّ اللغة العربية حاضرة بقوة في مهام المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين سواء في تخصص اللغة العربية أم في التخصصات الأخرى بمختلف أنواعها.
لتبتدأ أشغَال الجلسة العِلمِيةِ المخصصة للندوة، والتي تَرَأسّهَا مدير مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة: الدكتور عبد الرحيم بودلال، مُفْتَتِحًا إِيَّاهَا بِكَلِمة أَشَادَ مِنْ خِلاَلِهَا بِمِثْل هذه اللقَاءَاتِ الفكرية اللغوية، لنقاش موضوع له من الراهنية ما يجعله يستحقّ المناقشة والتأمل، ليترك المجال لِلمتدخِلينَ لتقديم مداخلاتهم للإجابة على الأسئلة أعلاه، من خلال مجموعة من القضايا النظرية والتطبيقية ذات العلاقة بالاختيارات اللغوية في التعليم المغربي.
فأمَّا المشاركة الأولى فقد كانت من نصيب نائب المدير التنفيذي لمعجم الدوحة التارخي للغة العربية: الدكتور رشيد بلحبيب،ساهم من خلالها بمداخلة علمية تحمل عنوان“خواطر في سياق تعليم العربية”، تحدث فيها عن بعض المسلمات القبلية من قبيل؛
ـــــ اللغة العربية بين الجنس واللسان؛ إذ إنّ اللغة العربية عربية اللسان لا بالعرق، مستشهدا بما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال ” ليست العربية من أحدكم بأب ولا أمّ، وإنّما العربية اللسان فمن تحدث العربية فهو عربي”.
ــــ أنّ الجهل باللغة العربية تَخَلُّفٌ في الدّين ومدخل للضلالات، مستشهدا بما جاء عل لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما سمع أحدهم يلحن في كلامه ” أرشدوا أخاكم فقد ضلّ”، وهي صفة نراها في العقائد؛ إذ إنّ الجاهل باللغة كالجاهل بالدّين يحتاج كلّ واحد منهما إلى ترشيد.
ـــ ضرورة التدريس و التعلم بلغة الأم؛ لأنّ استعاب العلوم وفهمها لا تسير إلا باستخدام اللغة الأم، أمّا إجبار الطّفل على تعلّم لغة أخرى غير لغته الأمّ، فهو انتهاك لحقوقه واغتصاب للسانه، فالطفل يولد بالفطرة وأبواه يُفَرْنِسَانِهِ أو يُطَلْيِنَانِهِ فليتحملوا ذلك.
في ضوء هذه المسلمات وغيرها تحدّث الدكتور رشيد بلحبيب عن واقع اللغة العربية وحضورها بالجامعات المغربية؛ فهي حاضرة باستحياء في كلية الشريعة واللغة، منبوذة في كلية الحقوق والطب، غائبة غيابا غير مبرر بكلية العلوم والهندسة. وأمام هذا الوضع أشار إلى أنّ اللغة العربية لا ينبغي أن تكون حبيسة كلية الآداب، بل ينبغي أن تمتد إلى باقي الكليات. منهيا مداخلته ببعض الطرائق المُغَيبة في تدريس اللغة العربية من قبيل؛ احياء ثقافة القراءة، حفظ عيون الشعر، كتابة وشكل النصوص باعتبارهما يساعدان على التحكم في الملكة اللغوي لدى الطفل، وببعض نواقض تدريس اللغة العربية أشار؛ التدريس بالدارجة، تدريس القواعد مع غياب النصوص الأصلية، مقولة اجزم تسلم، مقولة خطأ مشهور خير من صواب مهجور. إنّ الشعب أمام هذا الوضع ـ يضيف ـ سيبقى لقيطا في العلوم ما لم يتم بلغة القرآن، وسنبقى صُمًّا إن لم نهتم باللغة العربية، بُكْمًا في توصيل الرسالة لهذه الأمة، عاجزين إن لم تكن لغتنا واحدة قوية.
ومن أجل رؤية جديدة لاكتساب مهارات اللغة العربية تستجيب لمتطلبات العصر، تناول الدكتور علي الأربعين في مداخلته ورقة علمية تحمل عنوان ” تعليم اللغة العربية بالانغماس: تجربة انغماسية ألفا نموذجا” أشار فيها إلى مجموعة من المحاورنجملها في النقاط التالية:
ـــــــ واقع اللغة العربية، إذ إنّ اللغة العربية تواجه مجموعة من العوائق في تدريسها والتي تتجلى في: عدم توفر المدرس المتمكن من اللغة العربية، عدم توفر الكتاب المدرسي والوسائط التربوية، عدم توفر لغة عربية واضحة، المفارقات القائمة في تدريس اللغة العربية وواقع ممارستها في المدرسة والمجتمع…. أمام هذه التحديات أشار الدكتور علي الأربعين إلى ضرورة إعادة النظر في مجموعة من الأمور لتجاوز هذه التحديات، منها: إعادة النظر في المنهج، الغلاف الزمني، أطر هيئة التدريس…
ـــــــ الانغماس اللغوي؛ الذي يطلق عليه أحيانا التدريب اللغوي الانغماسي، وهو برنامج يعرض الطالب للغة الجديدة باستخدام اللغة الجديدة وحدها، وتقدم الدروس بمستوى مناسب للمتعلّم، ويتم إجراء كافة التدريبات والنشاطات باللغة، ويقوم الانغماس اللغوي على مفهومين أساسيين: البيئة اللغوية والكفاءة التواصلية، ويمكن التمثيل لذلك بالسياقة، فممارسة السائق هي التي تتحكم في سلوكه وليس ما تلقاه من قواعد وآداب قبل الحصول على رخصة السياقة، باختصار شديد إن التعليم ممارسة، ولجعل المتعلم يتقن لغة ما، يجب أن توفر له البيئية اللغوية السليمة لممارستها وهو يقوم بأنشطته اليومية المعتادة، وهذا جوهر الانغماس اللغوي.
هذا وقد أشاد الدكتور علي الأربعين في نهاية مداخلته إلى أهمية الرؤية الاستراتيجية للبرنامج؛ والذي يسعى إلى إنشاء جيل الترجمة إلى العربية، اكتساب المهارات القرائية والكتابية، إلى جانب لغات أجنبية أخرى، معالجة حل مشكل الضعف اللغوي، وبالتالي إنشاء جيل مبدع متحكم في اللغة العربية شفاهة وكتابة، استعمالا وقواعد.
ولمناقشة إشكالية العلاقة التي تربط الهوية بلغة التعليم قدّمأستاذ التعليم العالي المؤهل: الدكتور محمد بنلحسن ورقة علمية ميدانية بعنوان ” الهوية ولغة التعليم، تجربة المغربأنموجا: دراسة ميدانية” تناول فيها الإشكالية القائمة بين الهوية ولغة التعليم، ومدى تأثير التدريس باللغة الفرنسية على الهوية، وعلى اللغة العربية ذاتها، وبلغة الأرقام والنسب المئوية توصّل الدكتور إلى أنّ اللغة العربية تحتل مراتب متأخرة داخل التعليم المغربي، على غرار اللغة الفرنسية التي تعرف اكتساحا وهيمنة على صعيد الجامعات المغربية. أمام هذا الوضع الذي تعيشه اللغة العربية دعى إلى ضرورة إدخال اللغة العربية في الجامعات المغربية، العلوم منها والطبية، علاوة على ضرورة توفير مراجع لجميع العلوم، وتدريسها من خلال تأهيل أساتذة لتدريس العلوم بمختلف أنواعها باللغة العربية.
ولتشخيص إشكالية اللغة المستعملة في المجال التعليمي بالمغرب، تناول نائب مدير المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين: الدكتور فريد أمعضشو ورقة بحثية في موضوع“استعمال اللغة العربية في مجال التدريس والتأليف المدرسي بالمغرب”؛ انطلاق فيها من مدخلين اثنين؛ مدخل لغة التدريس، ومدخل الكتب المدرسية المقررة التي تنتج باستعمال العربية، وذلك في ظل واقع يتميز بتعدد اللغات التي يتم التدريس بها في المدرسة المغربية.
وبحكم تجربته الميدانية توصل إلى أنّ واقع اللغة العربية تعيش وضعا لا تُحسد عليه؛ تغريب، هيمنة التيار الفرنكفوني الغاشم، تيار التلهيج، عزلة معتمدة من خلالها اتهامها بالقصور والتخلف، علاوة على وجود من يقوم ببناء الدروس إما بالدارجة، أو بلغة وسطى، أو بخليط لغوي يجمع بين ماهو عامي، أمازيغي، فصيح، ألفاظ من هنا وهناك، كل ذلك يتم في وقت تلحّ فيها الوثائق الرسمية على استخدام العربية الفصيحة في تدريس المواد.
أما في مجال تأليف الكتب المدرسية المقررة لتلاميذنا، فقد أشار إلى أنها تعرف مشاكل كثيرة متعددة، تتصل باستعمال اللغة العربية فيها، وبورود أخطاء فيها من الوفرة والتنوع بمكان، الأمر الذي جعله يدعوا إلى ضرورة الحرص على استعمال اللغة العربية في تأليف هذه الكتب، وضرورة اعتماد المدقق اللغوي أثناء التأليف
ومن أجل مقاربة اللغة العربية في التعليم المغربي، تناول الدكتور محمد خداش، من خلال ورقتهموضوعا علميا بعنوان ” اللغة العربية في التعليم المغربي لغة مدرسة ولغة للتدريس: مقاربة تربوية”، حاول من خلالها الحديث عن أهمية اللغة العربية في التعليم، ومسار تعريب التعلم في مرحلة ما بعد الحماية، وكذا مكتسبات التلاميذ في اللغة العربية بعد الميثاق الوطني للتربية والتكوين، مشيرا إلى أنّ هذه المكتسبات لا تمت بصلة، بل وبعيدة كل البعد عما حدّده الميثاق الوطني، علاوة على حديثه عن وضعية اللغة العربية وفق ما يسمى بالرؤية الاستراتيجية التي صدرت عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين، والممتدة من سنة 2015 إلى سنة 2030.
الندوة تميزت بإعطاء فُرصة من أجل التفاعل والنقاش لثلة مِنَ الأسَاتذةِ والطلبة الباحثين لتقديم تصوراتهم وملاحظاتهم حول واقع اللغة العربية في التعليم المغربي، وكذا وضع أسئلتهم وتعقيباتهم حول ما تم تناوله في مداخلات الأساتذة، ليأخذ كل واحد منهم كَلِمَةً أَخِيرَةً أَجَاب من خَلالهَا عَلى أَسئلَةِ المُتدَخلينَ.
تقرير: الأستاذ سلام أورحمة