أدركوا العربية قبل السقوط

أحمد زهران – كاتب مصري

تعتبر اللغة عنوان الهوية في أية أمة، وهي بمثابة العملة النقدية، تروج وتنتشر بقدر ما لهم من استقرار سياسي، وتقدم تقني، ورخاء اقتصادي.

والعربية هي حاملة الرسالة السماوية، ومبلغة الوحي الإلهي: “كتاب فُصلت آياته قرآناً عربياً لقومٍ يعلمون”. (فصلت، الآية 3)، كما أنها مبدعة الحضارة العربية الإسلامية، وحافظتها وراويتها بين الأجيال، وذاكرتها على مر العصور.

العربية في التراث الإسلامي:


والمتتبع للتاريخ يلحظ أن الأولين اعتنوا باللغة عناية خاصة، إذ كانوا يعدون العربية من الدين، فيروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعتبر تعلم لغة القرآن الكريم والتعمق في علومها وآدابها مثل التعمق والتفقه في الدين وعلوم الشريعة.

“فرنسا فرضت منذ أعوام غرامة ألفي فرنك فرنسي على كل من يستخدم كلمة أجنبية واحدة يوجد لها مقابل في الفرنسية”

يقول “أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي” ويقول أيضا “تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم”.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يبين وجه اعتبار عمر التفقه في العربية مثل التفقه في الشريعة “فهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة يجمع ما يحتاج إليه، لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله”.

وقال عمر رضي الله عنه أيضا تعلموا الفرائض واللحن والسنن، كما تعلمون القرآن.

وقد سبق عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمانه بأربعة عشر قرنا حين قرر عقوبة للذي يخطئ في العربية، ومن ذلك أنه أمر بعزل كاتب أبي موسى الأشعري وجلده سوطا لعدم تمكنه من قواعد العربية، إذ كتب خطابا إلى عمر يقول في مفتتحه: من أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب.والصواب من أبي موسى كما يعلم ذلك من له أدنى معرفة باللغة.
بينما لم يهتد الآخرون إلى فظاعة إفساد اللغة إلا حديثا، فاقترحوا عقابا لمن يفسد اللغة ومعاملته كمجرم، ففرضت فرنسا منذ أعوام غرامة ألفي فرنك فرنسي على كل من يستخدم كلمة أجنبية واحدة يوجد لها مقابل في الفرنسية.

بل كان الأوائل يعدون تعلم العربية وخدمتها وحبها من الدين، ومن حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

يدل على ذلك ما قاله الإمام أبو منصور الثعالبي “من أحب الله تعالى، أحب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب، أحب العربية، التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العرب والعجم، ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها، وصرف همته إليها.

ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه، اعتقد أن محمدا صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد”.

أمم تحيا بلغاتها:


ولو ضربنا أمثلة على اهتمام الأمم الأخرى بلغاتها فسنجد في ذلك العجب العجاب، فلغة الكيان الصهيوني (العبرية) كيف كان حالها قبل سنة 1948م؟ كان اليهود أنفسهم يشعرون بقصورها، ويدركون عدم استيعابها للعلم.

وبالرغم من ذلك نشط مفكروهم وأدباؤهم، انطلاقا من حرصهم على هويتهم، وتعصبهم لقوميتهم، وكان من بين هؤلاء إليعازر بن يهودا الذي توفي سنة 1925 وقد قال: لقد اكتشفت كنوزا عبرية في المعاجم العربية، فانظر إلى تبريره للسطو والسرقة! وكذلك انظر إلى مدى النشاط والحرص على خدمة هويته اللغوية!

وإنا لنأسف على حال مفكرينا الذين رأوا عظمة الثروة اللغوية الموجودة في معاجمنا، فوقفوا أمامها مشدوهين مبهورين لا يعرفون كيف يتعاملون معها، فنادوا باختصار المعاجم اللغوية، حتى قال بعضهم: لسنا في حاجة إلى ثمانين ألف مادة التي وردت في لسان العرب، كما يقولون، ولا بد من طرح بعض الألفاظ وإماتتها.

لعلنا لو قارنا بين حال مفكرينا ومفكري اليهود من ناحية الحرص على الهوية وقوة الانتماء لما وجدنا وجه مقارنة، إن مفكرينا الذين تحدثوا عن صعوبة لغتنا، وعن تضخم معاجمها، وضرورة اختصار هذه المعاجم مَثَلُهُم كَمَثَل إنسان ورث عن أبيه سبيكة ذهبية ضخمة، وهو قاصر الذهن، فوقف أمام السبيكة متحيرا كيف يستخرج منها الأساور والخواتم؟

بل وكيف يضعها في أشكال وقوالب حديثة لإخراج زينة تناسب أذواق العصر؟ فلما كَلَّ تفكيره وجهده عن كل ذلك أخذ السبيكة وألقاها في البحر ليريح نفسه.

لقد اهتم اليهود بلغتهم فجعلوها لغة العلم ولغة الأدب، بعدما أصلحوا شعثها، وداووا أمراضها، حتى نالوا بها جائزة نوبل في الأدب.

واللغة الصينية التي كانت قبل ثورة 1949 في عداد اللغات المتخلفة، انظر إليها الآن، وكيف أخذت تروج وتنتشر وتغزو العالم مع غزو الصين للعالم صناعيا، بالرغم من صعوبة لغتهم، فهي تحتاج إلى إتقان أكثر من ثلاثة آلاف مقطع صوتي، حتى يتعاملوا معها بحرية واقتدار، فحولوها من هذه الصعوبة إلى لغة العلوم والتقنية.

وكذلك يقال عن اللغة الأيرلندية قبل ظهور ديفاليرا الذي جمع الأيرلنديين حول لغة الأجداد، ورأى أن من العار أن ينهض الشعب على لغة مستعارة، لغة الغازي المحتل الإنجليزية، وإنما لا بد من إصلاح لغة الأجداد الأيرلنديين.

وهذا أيضا هردر الأديب الألماني الذي جمع الألمان حول لغة الأجداد، وأخذ يغرس هو ومن معه من الأدباء في نفوس الناشئة حب لغتهم، مما مهد السبيل أمام بسمارك فوحد هذه الجموع المتفرقة، وأقام الإمبراطورية الألمانية.

وقديما كانت فرنسا تدرس فيها العلوم بالإنجليزية، وبقرار “فرنسا العلوم” صارت الفرنسية لغة العلم والحياة، بل ولغة عالمية لها تواجدها خارج حدود فرنسا.

وما تجربة فيتنام من ذلك ببعيد، لقد استطاعوا أن يحولوا اللغة الفيتنامية إلى لغة للعلوم بعد أن كانت تدرس بالفرنسية في بلادهم.

العربية تتهاوى:


وبينما اهتم علماء أمتنا الأولون ومثقفوها بالعربية، واهتمت أمم الأرض جميعها بلغاتها وأعادت إحياء ما اندرس منها، تعاملنا نحن -أبناء حضارة القرن الحادي والعشرين- مع لغتنا العربية وكأنها غريبة عنا، حتى ادعى بعض أهلها عدم مقدرتها على مسايرة اللغات المعاصرة.

وفي كتاب بعنوان: موت اللغة ألفه اللساني البريطاني ديفد كريستال، وصدر عن مطبعة جامعة كامبردج، استعرض الكاتب تسعة شروط لموت اللغة.

وجميع هذه الشروط تنطبق على اللغة العربية في وضعها الراهن، وفي مقدمتها شرط انتشار لغة الغالب في بلاد المغلوب وحلولها محل لغته التي هي من مقومات الأمة. وهذا مبدأ معروف في علم الاجتماع أرساه العلامة ابن خلدون في المقدِّمة بقوله: “إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، إن الأمة إذا غُلِبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء”.

ويقول علماء اللسانيات إنه يوجد في الوقت الحاضر ما بين خمسة آلاف وستة آلاف لغة طبقا لنوعية التصنيف واحتساب اللهجات أو عدمه، وتشير الإحصاءات العلمية إلى أن ما بين 250 و300 لغة تنقرض سنوياً بفعل سرعة التواصل، والميل إلى استعمال اللغات العالمية الأكثر فاعلية.

وهذا هو ما يسميه بعضهم بالغزو الثقافي أو اللغوي، وبعملية حسابية بسيطة، يتبين لنا أن القرن الميلادي الحالي سيشهد اندثار حوالي ثلاثة آلاف لغة، أي نصف لغات العالم

وقد أكدت التقارير الصادرة عن منظمة اليونسكو مؤخرا أن هناك عددا من لغات العالم مهدد بالانقراض، ومن بينها اللغة العربية.

وهذا ما حدا بمنظمة الأمم المتحدة في نيويورك إلى أن تتجه إلى إلغاء العربية من بين اللغات العالمية الرسمية في المنظمة وهي: الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والروسية والصينية والعربية.

وذلك لثلاثة أسباب:

السبب الأول: عدم استعمال ممثلي الدول العربية اللغة العربية في الأمم المتحدة، فهم يستعملون الإنجليزية والفرنسية.

السبب الثاني: عدم وجود مترجمين عرب أكفاء يجيدون اللغة العربية.

السبب الثالث: عدم وفاء معظم الدول العربية بالتزاماتها المتعلقة بدفع نفقات استعمال العربية في المنظمة.

ولك أن تعرف أن امتحان الثانوية في فرنسا كان يسمح للطالب باختيار لغة ثانية كالإنجليزية أو الألمانية أو الإسبانية أو العربية.

وابتداء من سنة 1995 لم تعد العربية من بين هذه اللغات، واستعيض عنها بعدد من اللهجات العربية.

وعلى حد تعبير أحد اللغويين المعاصرين أثناء مناقشة مشكلة العربية، وما يهددها من أخطار، فقد لخص القضية في قوله “أنا أقول لك إن الرجل ميت، وأنتَ تقول لي إن لسانه لا يتحرك”.

التوصيات العملية


وحتى نعيد للعربية صدارتها في حياتنا تعلما ومخاطبة وكتابة، علينا اتباع الآتي:

  1. التصدي الجاد والمتدرج لمحاولات الدعوة إلى اللغة العامية -داخل الوطن العربي- وخاصة في مجال الإعلام.
  2. قيام المجامع اللغوية بإجراء التجارب والبحوث العلمية والدراسات المتخصصة التي يعتمد عليها في بناء المناهج وتقويمها، وفي تأليف الكتب واختيار أنجح أساليب التدريس.
  3. تشجيع الطلاب والطالبات والتلاميذ على استعمال العربية الفصحى في الحوار والنقاش داخل قاعات الدرس، مما يتيح لهم دُربة عملية ثمارها إحياء العربية الفصحى على ألسنتهم.
  4. العمل على استخدام اللغة العربية الفصحى المبسطة في برامج الأطفال والكتب الخاصة بهم، بطريقة مشوقة حتى يألفها الطفل قبل دخول المدرسة وأثناء التعليم الابتدائي، وقد ثبت علميا أثر هذه البرامج التي تتخذ من العربية الفصحى لغة لها، في محاكاة الصغار لها دون أدنى معرفة بقواعد اللغة.
  5. اعتماد العربية الفصيحة لغة رسمية في الخطابات الرسمية والبيانات الدورية التي يلقيها المسؤولون من رجال الدولة والشخصيات العامة في خطبهم وبياناتهم إلى الجماهير.
  6. إعداد دورات تدريبية للعاملين في مجال الإعلام المسموع والمشاهد والمقروء بهدف تدريبهم على الضبط الإعرابي والنطق السليم.
  7. مساعدة أبناء الجاليات العربية خارج الوطن العربي، والاهتمام بالمدارس العربية في الخارج، ودعم البرامج التعليمية للعربية في المدارس غير العربية.
  8. تعريب أسماء المحلات التجارية والشوارع والميادين، عبر سن القوانين التي تحظر إطلاق أسماء أجنبية عليها، للمحافظة على الشكل الحضاري العربي الإسلامي لمجتمعاتنا العربية.

 المصدر : الجزيرة

التعليقات (0)
إضافة تعليق